آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسياسيّة والعسكريّة [11]

علم_حزب_الله.svg_-1-r5n52ou3nnevvz0vxd4747kjxn1bsg0iaidxyb9zlc-r5y5z2fqft4ip2cwu3e6135yorfw0svt3exil3r9f4-r69u7dni9en623n44e1niiej01x3gd8cdlrue4ux68-r6muusonymcbmkysw5ikw2ft6wul59l8nd9ovtfu5s-r7tdfl7m276

أسعد أبو خليل

حزب الله عشيّة حرب الإسناد

لم يكن حزبُ الله في أحسن حال عندما اشتعلَت غزّة بعد «طوفان الأقصى» وقرّر الحزبُ -بقرارِه هو لا بقرارِ إيران المتحفِّظة- شنَّ حرب الإسناد.

كان هناك الكثير من الأثقال التي أربكت الحزب في السنوات التي سبقت الحرب:
أولاً، مضاعفات اغتيال رفيق الحريري: الكارثة الكبرى التي أصابت الحزب كانت في مفاعيل اغتيال رفيق الحريري ومضاعفاته. لم يسئ إلى العلاقات السنيّة الشيعيّة أيُّ حدث أكثر من هذا الحدث في تاريخ العلاقة بين المذهبَين في تاريخ لبنان المعاصر، والأبعد. لا نعلم بعدُ هويّة الطرَف الذي قتل الحريري ولا يمكن أن نصدّق أبداً ما صدرَ عن محكمة الحريري الدوليّة. التسييس كان بدرجة تجعل من الصِّدق الذي ورد في التقرير النهائي كذباً -هذا لو كان هناك أيُّ صِدق.

الحزب لم يعرف كيف يتعامل مع الاغتيال ولم يتعامل معه بجديّة فائقة. كان على الحزب أن يعلَم أنّ هذا الاغتيال سيفتحُ المجال واسعاً أمام أعدائه لاستغلاله. لو كان النظام السوري مسؤولاً عن الاغتيال، أو لو كان غيره، لكان على الحزب أن يسهم في التحقيق ويقدّم لعائلة الحريري، وللرأي العام، خلاصة التحقيق الذي أجراه (من المعلوم أنّ نازك الحريري طلبت من نصرالله عندما جاء معزّياً أن يقدّم لها تحقيقاً تقنيّاً من الحزب حول الاغتيال، وبالفعل قدّم لها نصرالله تقرير الحزب). لكن هذا الاغتيال السياسي (وسقط فيه العشرات من الأبرياء) زلزلَ المنطقة برمّتها وزعزع أركان شعبيّة الحزب في لبنان والعالم العربي والإسلامي.

نجحت السعودية والغرب وإسرائيل في تلبيس الاغتيال للحزب ساعةً وللنظام السوري ساعةً أخرى ولأحمد جبريل مرّةً، وكل ذلك من باب الاستغلال المفضوح للحدث الجلل. قبول لبنان بالمحكمة الدوليّة هو الخرق الأوّل والأكبر لأمن الحزب. أصبحت لجان تحقيق المحكمة الدوليّة تتقصّى عن ملفّات الطبيبة التي تعالج زوجات مسؤولي الحزب. ما علاقة ذلك بالتحقيق في اغتيال الحريري؟ هذه كانت حتماً مهمّة إسرائيليّة محضاً. وكلّ المعلومات الخاصّة باللّبنانيّين باتت بمتناول المحكمة (أي إسرائيل) بالكامل، مع شروحات من متخصّصين لبنانيّين جنّدتهم المحكمة. وكلّ الاغتيالات التي جرت قبل هذا الاغتيال وبعده لم تدفع بأميركا (أي إسرائيل) إلى المطالبة بلجنة تحقيق دوليّة.

سرعة تشكيل محكمة دوليّة بعد الاغتيال تزيد من الشبهات حول دور أميركا وإسرائيل في الاستغلال، أو أكثر من الاستغلال. هنا وقع الحزب في الفخ الأكبر وقبِل بإسباغ مشروعية رسميّة حكوميّة (وحتى مشروعيّة المقاومة) على مهام التحقيق للمحكمة. لا، وفريق 14 آذار (عبر وزير العدل المتقلّب، شارل رزق، الذي عيّنه إميل لحّود في وزارة العدل قبل أن ينقلب عليه بدافع العصف الفكري الحادّ) روّج في البداية لكذبة أنّ المحكمة هذه ليست دولية بل هي «محكمة ذات طابع دولي» هناك بالفعل محاكم ذات طابع دولي (مثل محكمة سيراليون) لكن هذه المحاكم تمزج بين القانون المحلّي والدولي.

في حالة لبنان، لم يكن القانون المحلّي سارياً إلّا في قضايا تقنيّة لا تتعلّق بمجريات التحقيق وسياقه والأغراض الإسرائيليّة والأهداف السياسيّة للمحكمة. سيطرت أميركا (أي إسرائيل) على المحكمة منذ انطلاقتها. لماذا لم يعارض الحزب إنشاء هذه المحكمة ولماذا صدّق أنّها لن تكون محكمة دوليّة؟

أحياناً ترى أن الحزب يفتقر، أو افتقر، إلى خبراء في القانون الدولي متضلّعين في اللّغة الإنكليزية أو الفرنسيّة (وهذا يسري على المفاوضات التي أفضت إلى وقف الأعمال العدائيّة الأخيرة). المحكمة الدوليّة فتحت أمام إسرائيل كلّ المعلومات التي تحتاج إليها عن كلّ سكّان لبنان. وتزامن ذلك مع تركيب كاميرات في كلّ الأماكن التي تريدها إسرائيل. أمن حزب الله انكشف منذ تلك اللحظة. لم يتعافَ الحزب من جرّاء فتح لبنان أمام إسرائيل من خلال المحكمة.

ثانياً، الحرب السوريّة: كيف ننظر اليوم إلى الحرب السورية التي شارك الحزب فيها بعد سقوط نظام بشّار الأسد؟
لا شكّ أن تبلْور حُكم أحمد الشرع (الفرع السوري لـ«القاعدة») وانفتاحه على الصهيونيّة العالميّة وإبداء استعداده للانخراط في التطبيع الشامل والكامل (المسار الإبراهيمي) كل ذلك يدعم الحجج التي ساقها حسن نصرالله في تسويغ التدخّل العسكري في سوريا. والحجّة أنّ الجماعات التكفيريّة هي جزء من المشروع الصهيوني أصبحت واضحة.

ثمن ذلك كان كبيراً جدّاً وسيعرقل أيّ مصالحة بين الحزب من جهة وبين عموم الشعب السوري -الذي أصبح عرضة لبروباغاندا قويّة جعلت من الحزب عدوّاً أخطر من إسرائيل نفسها- من جهة ثانية

ترامب اعترف أمام الإعلام قبل أيّام أنّ نتنياهو كان وراء القرار الأميركي بالاعتراف بحُكم «هيئة تحرير الشام» وبإزالة العقوبات عن سوريا، وعن المنظمة التي كانت مُصنَّفة في كلّ دول الغرب بأنها إرهابيّة. والحزب لا يزال يُصنَّف على أنّه إرهابي، مع أنّ أميركا لا تتّهمه بإيذاء أميركيّين بعد أوائل الثمانينيّات. عصابات المعارضة الجهاديّة في سوريا حاربت الأميركيّين قبل سنوات فقط. والإعلام الإسرائيلي كان قد اعترف، أو زها، بأنّ الحكومة الإسرائيليّة قدّمت أشكالاً من الدعم لـ«القاعدة» وغيرها في سوريا.

لكنْ كيف أثّرت الحرب السوريّة على الحزب؟ وهل أحسن التعامل مع تدخّله فيها؟ والمرور في سوريا يحتاج إلى عبور خاضع لأجهزة تجسّس من غير دولة. والخطّ العسكري الشهير (بين لبنان وسوريا) كان على الأرجح أكثر عرضة للمراقبة المستمرة والاختراق من الخطّ العادي. هنا تتضارب المقولات حول نقاش التدخّل وعرض أسانيده لأنّ الحزب ومؤيّديه يتمسّكون بصوابيّة التدخّل بكلّ أشكاله من دون أيّ مراجعة نقديّة. لكن ليس هناك من شكّ أنّ الحزب في تدخّله في سوريا فتح تنظيمه وفَلشَه أمام أعين الإسرائيليّين.

العداء ضدّ الحزب وإيران عند الكثير من السوريّين خفّف عداءهم نحو إسرائيل وجعل من محور المقاومة العدوّ الأول لهم. أحمد الشرع اعترف لصهاينة واشنطن أنّه يشارك إسرائيل أعداءَها، لأنّه (مثل جبران باسيل) لا يكنّ عداءً ضد إسرائيل والصهيونيّة. توالت الاغتيالات الإسرائيليّة ضدّ عناصر وقيادات من الحزب ومن إيران. يكفي أنّ القائد العسكري الأوّل للحزب، عماد مغنيّة ونائبه مصطفى بدر الدين اغتيلا في سوريا، ومن دون ردّ انتقامي كبير (بحجم الاغتيال) من الحزب. بدأت القوّة الردعيّة للحزب بإظهار مكامن ضعف، ليس فقط من ناحية الانكشاف الأمني الواضح، بل أيضاً من ناحية انعدام الرغبة أو القدرة على الردّ.

صحيح أنّ الحزب كان متفرّغاً لمعركة إنقاذ النظام السوري ولم يُرِد أن يفتح جبهة أخرى تجعل من إسرائيل طرفاً مباشراً في الحرب لصالح المعارضة المسلّحة، لكن ذلك كان جارياً. إسرائيل طرف في كلّ حرب أهليّة في العالم العربي منذ الخمسينيّات على الأقل. هي كانت مشاركة في الحرب منذ اندلاعها وحاولت المعارضة التغطية على مشاركة إسرائيل عبر التدليل على تلك المقابلة مع رامي مخلوف في «نيويورك تايمز» (والمقالة كانت بالفعل محاولة تطمين لإسرائيل من قبل نظامٍ متهاوٍ).

اغتيال عماد مغنيّة كان من أكبر الضربات التي تلقّاها الحزب حتى اغتيال نصرالله. عدم الردّ أشعر إسرائيل أنّ الحزب أضعف ممّا كانت تتخيّل. الحزب الذي أذلَّ إسرائيل في حرب تموّز ليس هو الحزب الذي يسكت عن اغتيال مغنية وبدر الدين. صحيح أنّ الحزب كان يتعامل مع الصراع ويداه مكبّلتان خلفه لأنّ معظم الشعب اللبناني كان ضدهّ وأكثر من نصف الشعب يناصر إسرائيل بدرجة أو بأخرى، لكنّ تخفيف العداء الشعبي ضدّ إسرائيل، خصوصاً عند السنّة، كان نتيجة عمل دؤوب ومضنٍ من قِبل أعداء الحزب.

بصرْف النظر عن الموقف السياسي من تدخّل الحزب في سوريا (وأنا -ومَن أنا؟- كنت ضدّ تدخّل الحزب في سوريا)، فإنّ الحزب أدارَ تدخّله بطريقة سيّئة، أو -لنقل- بطريقة أفادت أعداءه وأسهمت في تغيير الثقافة الشعبيّة للشعب السوري واللّبناني.

كان همّ المحور الخليجي الإسرائيلي-الغربي بعد انتصار تمّوز، لصْق الصفة الشيعية والإيرانية بالحزب ونفي صفة المقاومة عنه. كان على الحزب أن يعلم أنّ تدخّله مهما كان حريصاً في تنفيذ الأعمال العسكريّة، سيُصوَّر على أنّه قتْل نساء وأطفال. وبروباغاندا المعارضة السوريّة (بإشراف المحور الخليجي-الإسرائيلي-الغربي) كان فعّالاً: إذ قال، كلّ أعمال القتْل من قِبل المعارضة المسلّحة كانت ضدّ شبيحة، وكل أعمال قتْل الطرف الآخر كانت ضدّ نساء وأطفال فقط. لا يزال السوريّون يتحدّثون بمرارة حول حزب الله والكثير يشمت بمعاناته على يد إسرائيل. للحزب أن يقرّر أنّ المحور يحتاج إلى بقاء النظام السوري لكن لم يكن هناك، ربّما، تصوّر عن مضاعفات التدخّل واستغلاله من قِبل أعداء المحور.

التدخّل في سوريا جذب الآلاف من المقاتلين العتاق والجدد والكثير منهم (غير المجرّبين) تباهوا على المواقع ووضعوا شرائط فيديو وصوراً بوجوه مكشوفة. كما أنّ رفْع الشعارات الطائفيّة خدم التجنيد الطائفي على الطرف الآخر. الحزب استعمل الشعارات الطائفيّة من أجل حثّ الجمهور على الدعم والمشاركة. أخبرني رجل شارك في الحرب أنّ الشعارات الطائفيّة هي التي حفّزته على المشاركة وأنّ حجج مجابهة إسرائيل وأعوانها لم تكن كافية بالنسبة إليه. لكنّ ثمن ذلك كان كبيراً جدّاً وسيعرقل أيّ مصالحة بين الحزب من جهة وعموم الشعب السوري -الذي أصبح عرضة لبروباغاندا قويّة جعلت من الحزب عدوّاً أخطر من إسرائيل نفسها- من جهة ثانية.

زال العداء لإسرائيل في سوريا عند كثيرين، والشرع يطبّق وينسّق مع إسرائيل ويبحث في تفاصيل التحالف مع حكومة العدوّ (عبر أربع أقنية منفصلة كما ذكر الإعلام الإسرائيلي) من دون أن يحتاج أن يفسّر خطواته أمام الشعب السوري الذي يبدو مؤيّداً في أكثره. هل الحرب السورية هي التي كشفت مقاتلي الحزب وكوادره؟ هل الأسماء باتت معروفة؟

هل تجنيد هذا العدد الكبير من المقاتلين خفّف من وتيرة التنقية والاختبار والتدقيق في الخلفيّات؟ شابت التدخّل في سوريا عملياتُ تشبيح واستفزاز طائفي (أقلّه في الكلام على ما رأينا على المواقع) والانضباطيّة التي رافقت صعود الحزب تقلّصت كثيراً. حتى على مواقع التواصل، رأينا كيف أنّ بعض شباب الحزب والمناصرين تغيّروا عمّا كانوا عليه. كانوا قدوة في الخُلُق الحسن والأدب والترفّع، ثم باتوا مثل غيرهم في الإسفاف والبذاءة والاستفزازات الطائفيّة. حتى بعض مذيعي «المنار» حادوا عن الخط القويم الذي عُرف به إعلاميّو الحزب.
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة