من يقف اليوم على مشارف بني سهيلا، شرقي خان يونس، لن يجد البلدة التي كان يعرفها سابقًا، الشوارع التي كانت تعجّ بالحركة باتت مساحات مفتوحة بلا ملامح، والمباني التي شكّلت ذاكرة المكان تحولت إلى أطلال.
ورغم ذلك، لا يزال أهلها يتمسّكون بالبقاء، كأنهم يعلنون أن الوجود نفسه أصبح واجبًا يوميًّا لا يقبل المساومة.
بلدة تتنفس تحت النار
منذ وقف إطلاق النار الأخير، لم تهدأ أصوات القصف في بني سهيلا، طائرات استطلاع، مدفعية، غارات متقطعة، وتوغلات تتقدم أمتارًا كل يوم، في مشهد يشبه اختبارًا مستمرًا لقدرة البشر على الصمود.
ووفق مراسل المركز الفلسطيني للإعلام فإن قوات الاحتلال وضعت مكعبات صفراء، بما يؤدي لإغلاق منطقة دوار بني سهيلا ما يعني أن جميع مناطق شرق خانيونس باتت خلف الخط الأصفر.
ورغم الدمار الواسع الذي طال أكثر من 90٪ من مباني البلدة خلال العامين الماضيين، لم يغادر الكثير من السكان، بل نصبوا خيامهم فوق الركام، وأعادوا فتح الطرق الترابية بأيديهم، ليقولوا، كما يردّد محمد ابو عنزة، “لا نعترف إلا بوجودنا نحن”.
محمد وغيره من سكان البلدة يعيشون يوميًّا على وقع أصوات الانفجارات، لكنهم يرون أن البقاء في أرضهم أقل قسوة من رحلة نزوح طويلة أنهكتهم.
خطوط لا يعترف بها السكان
الخطوط الصفراء التي أعلنتها قوات الاحتلال كحدود “آمنة” لم تلقَ قبولًا لدى أحد هنا.
محمد أبو طير، الذي يعتصم بخيمته قرب مدارس العودة، يصفها بأنها “وهم سياسي”، ويرى أن تمسك الاحتلال بها استمرار لمحاولة فرض واقع جديد، فاشل منذ بدايته.
وبينما يحاول الجيش التقدم في مناطق محيطة بالبلدة، يصر السكان على ألا يعيدوا تجربة النزوح التي ذاقوا مرارتها لشهور طويلة. يقول عيسى أبو الجديان، وقد اعتاد النوم تحت القصف: “تعودنا على كل شيء… إلا فكرة الخروج من هنا”.
غضب ما بعد الهدنة
في نظر الأهالي، يتجاوز القصف المتواصل مجرد خرق لوقف النار. يصفه أبو رائد شاب بأنه “انتقام”. يرى الرجل السبعيني أن عودة السكان إلى البلدة أغضبت الجيش، وأن استمرار القصف ليس إلا رسالة لفرض فراغ سكاني بالقوة.
ويبدو أن هذه القناعة ليست بعيدة عن واقع عاشته البلدة؛ فقد شهدت بني سهيلا خلال الحرب واحدة من أقسى المعارك، خاصة في حي الزنة، حيث تكبّد الجيش خسائر كبيرة خلال عملية نفّذتها المقاومة في أبريل 2024، ويعتقد السكان أن العقاب الجماعي الذي يتعرضون له مرتبط بتلك الأحداث.
محاولات لفرض تقسيم جديد
قبل اتفاق وقف إطلاق النار، حاولت القوات الإسرائيلية تقسيم خان يونس إلى شرق وغرب عبر ما يشبه “محورًا” عسكريًّا جديدًا.
لكن عودة السكان إلى مناطقهم، وخاصة في بني سهيلا، أفشل تلك الخطوة، على حد قول أهالي البلدة.
ومع أن البلدة كانت تضم قبل الحرب نحو 47 ألف نسمة، إلا أن هذه الكثافة السكانية لم تمنع موجات التدمير التي طالت كل أحيائها تقريبًا، تاركةً خلفها مشهدًا صعبًا، لكنه لم يفلح في اقتلاع الناس من جذورهم.
بني سهيلا… مكان لا يختار الاستسلام
في بلدات كثيرة، يكون النزوح خيارًا قاسيًا لكنه ممكن. أما في بني سهيلا، فيبدو أن الناس اتخذوا قرارًا بأن الحياة في ظل الخطر أفضل من الحياة بلا هوية. فالمعركة هنا ليست فقط بين جيش وسكان؛ بل بين إرادة البقاء ومحاولات محو المكان.
ورغم كل ما لحق بها من دمار، لا يزال أهل بني سهيلا يواصلون يومهم، يبنون خيمة، يرفعون ركامًا، يزرعون قطعة أرض، أو يحرسون ما تبقى من منازلهم… وكأنهم يعيدون تعريف معنى الصمود في زمنٍ تنهار فيه المدن بسهولة.