محمد كركي
وقف نوعام في طابور طويل أمام عيادة للصحة النفسية في تل أبيب. ضابط احتياط خدم في لبنان، يحمل ظرفاً بلاستيكياً شاحب اللون: أوراق من الجيش، وتوصية طبيب عسكري بعبارة مقتضبة لا لبس فيها «يحتاج إلى متابعة علاجية عاجلة». رفع عينيه إلى الشاشة الإلكترونية في بهو العيادة، فقرأ رقمه، ثم قرأ ما هو أثقل من الرقم: موعدك المتوقع بعد أحد عشر شهراً.
في المساء، جلس مع زوجته في غرفة المعيشة الصغيرة. الحديث كان يدور حول قرار لا يجرؤان على تسميته بصوت عالٍ: هل يرحلان؟ برلين أم تورونتو؟ قبل عام واحد فقط، لم يكن هذا السؤال مطروحاً. كان نوعام يردّد بثقة موروثة: إسرائيل دولة قوية، نحن شعب لا يُهزم. لكن التفاصيل الصغيرة، حين تتراكم، تبدأ في تقويض أكثر الجمل رسوخاً.
نقصٌ حادّ في المعلّمين بمدرسة الابن، روضات أطفال تُغلق أبوابها لنقص الكادر، جدل قضائي لا ينتهي حول المحكمة العليا، تظاهرات تعود إلى الشوارع رغم دخان الحرب، ومجتمع يعيش بين صدمة عملية «الطوفان» وقلق الغد. فتح نوعام التلفاز: صور دمار في غزة وخطابات عن «نصر كامل»، بينما يمرّ في الشريط الإخباري خبر خفض التصنيف الائتماني، وآخر عن شركات أغلقت أبوابها، وثالث عن عودة الاحتجاجات. ابتسم ابتسامة قصيرة وقال: نحن نربح كل معركة… لكننا نخسر البلد ببطء.
هذه الجملة، التي نطق بها ضابط احتياط مجهول في شقة صغيرة بتل أبيب، تختصر سؤالاً أكبر بكثير: هل إسرائيل اليوم أضعف مما كانت عليه قبل عملية «الطوفان»؟
من السهل الانخداع بصورة القوة السريعة: طائرات تقصف، دبابات تتقدّم، قنابل ذكية، وتحالف غربي يفتح مخازنه بلا حساب. لكن القوة، في ميزان الاستراتيجية، ليست مجرد قدرة على التدمير. هي حاصل مركّب من الردع والهيبة والشرعية الدولية والقاعدة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي وهامش المناورة السياسية. وبهذا المعيار، دخلت إسرائيل بعد «الطوفان» مرحلة مختلفة: جيش لا يزال قوياً، لكنه يعمل داخل دولة أضعف.
عسكرياً، ازدادت التعبئة والخبرة والتداخل مع الصناعات العسكرية الغربية، ولم تضعف القدرة التدميرية. غير أنّ الضرر الحقيقي لم يصب «اليد»، بل الهالة التي تحيط بها. تحطمت صورة الدولة التي لا تُفاجأ، وانكشف خلل بنيوي سببه غرور استخباري واعتماد مفرط على التكنولوجيا وسوء تقدير لقدرات الخصم. النتيجة واضحة: خصوم أكثر جرأة، وحلفاء أكثر حذراً. أدوات الإكراه باقية، لكن قيمتها الردعية تراجعت.
دخلت إسرائيل بعد «الطوفان» مرحلة مختلفة: جيش لا يزال قوياً، لكنه يعمل داخل دولة أضعف… الضرر الحقيقي لم يصب «اليد»، بل الهالة التي تحيط بها. تحطمت صورة الدولة التي لا تُفاجأ، وانكشف خللٌ بنيوي
سياسياً، لم ينقطع الدعم الغربي بل ازداد في محطات كثيرة، غير أن إطاره تغيّر. دخلت إلى الخطاب مفردات لم تكن مركزية من قبل: اشتراطات الدعم، القانون الدولي الإنساني، المساءلة. لم تصل الأمور إلى قطيعة أو عقوبات شاملة، لكنها نقلت إسرائيل من خانة «الأصل الاستراتيجي الثابت» إلى خانة «المتغيّر المقلق الذي يجب إدارته». السلاح يصل، لكن شرعية استخدامه لم تعد مضمونة.
اقتصادياً، كانت الصدمة عميقة. تباطؤ في النمو، ارتفاع في العجز، خفض للتصنيف الائتماني، وتردّد متزايد لدى المستثمرين. اقتصاد دخل عام 2023 بثقة عالية وجد نفسه بعد أشهر من الحرب أمام فاتورة عسكرية وأمنيّة طويلة الأمد، وتعطّل واسع في النشاط المدني. القوّة العسكرية تحتاج قاعدة اقتصادية تموّلها وتحمل كلفتها؛ وحين تبدأ هذه القاعدة في النزف، تتآكل القوّة على المدى البعيد مهما بدت أكثر شراسة في المدى القصير.
أمّا في الداخل، فتحوّلت الأزمة القضائية التي سبقت «الطوفان» إلى أزمة أعمق في العقد الاجتماعي نفسه. الانقسامات المجتمعية تعمّقت، الثقة بالمؤسسات تضرّرت، والتعليم والصحة النفسية ينزفان كوادر. قصة نوعام ليست تفصيلاً عاطفياً، بل مؤشر على دَين نفسي واجتماعي يتراكم على الدولة ويقوّض قدرتها على الاستمرار بالقوة نفسها.
في مسرح الرواية، دخلت إسرائيل مرحلة غير مسبوقة. مصطلحات مثل الإبادة والفصل العنصري وتجويع المدنيين، باتت جزءاً من المعجم السياسي والقانوني الغربي السائد. هذا لا يعني سقوطاً وشيكاً، لكنه يعني انتقالاً تدريجياً من صورة «الضحية الدائمة» إلى موقع «المتهم الدائم»، وهي نقلة استراتيجية ثقيلة الكلفة حتى لو لم تظهر نتائجها كاملة بعد.
الخلاصة التي تفرض نفسها ليست خطابية ولا دعائية: إسرائيل اليوم أخطر تكتيكياً، لكنها أضعف استراتيجياً. أخطر، لأن قدرتها التدميرية باقية، ولأن نظامها السياسي تحت الضغط قد يلجأ إلى تصعيد غير محسوب. وأضعف، لأن الردع تصدّع، والشرعية الدولية تآكلت، والاقتصاد والمجتمع يعيشان حالة إنهاك عميق. والسؤال الجديّ اليوم لم يعد: هل ستسقط إسرائيل قريباً؟ بل السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في كل عاصمة وكل طاولة قرار هو: كيف سيتعامل الإقليم والعالم مع إسرائيل جديدة؛ أكثر شراسة في استخدام يدَيها وأضعف يقيناً في ثبات قدَميَها.
* باحث