آخر الأخبار

يا كلّنا

أيهم السهلي

بعد أشهر قليلة على الحرب، خضت نقاشات عدة، انتهى بعضها بخلاف غير ودّي مع أصدقاء كانوا يرون أن غزة تُركت وحدها، وأن الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة غير آبه، أو أنه صامت. كنت أرفض هذا الطرح، وأحاججه.

مرت سنة ونصف سنة تقريباً والحرب على غزة مستمرة، ولعلها المرة الأولى التي أكتب فيها تعبير «الحرب على غزة». فقبل ذلك حرصت أن أكتب «الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة»، وكنت أعتبر الأخير مصطلحاً سياسياً يجب تعميمه، وعدم القبول بغيره، لأن غيره، قد يقلل من واقع الشعب الفلسطيني الواحد في السرّاء والضرّاء.
كنت أجد مبررات عدة لتقاعس بعض شعبنا في أماكن وجوده المختلفة عن أداء أي دور اتجاه غزة، ولا سيما في الداخل، وذلك لأن المعركة التي نحن فيها هي معركة وجود وبقاء في الأرض. ومن شأن بعض التحركات أن تقدم ذريعة للاحتلال، لاقتلاع الشعب من أرضه في الضفة تحديداً، وهذا ما يحدث، ومن دون ذريعة، بدءاً بتدمير مخيمات شمالها، وتهجير أهلها.

واليوم، بعد مرور كل هذا الوقت على الحرب، أجد أن مقارنة بيننا وبين إسرائيل لا بد منها، حتى وإن كانت قاسية ومرّة. وهذه المقارنة مبتدأها الشعب نفسه. فعلى مستوى هؤلاء، لم يمض أسبوع منذ اندلاع الحرب، إلا وخرجوا للتظاهر، أحياناً بالآلاف في الساحات، وأمام المقار الحكومية، ومنازل المسؤولين، منهم رئيس حكومة الاحتلال. هذه التظاهرات، فقط للمطالبة بإنجاز اتفاق يؤدي إلى الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، وليس لإيقاف الحرب.

واللافت فيها، أنها تطرح رأياً سياسياً معارضاً للحكومة. على المقلب الآخر، الفلسطيني، أو الجزء من الفلسطيني، تخرج «تظاهرة» لا يصل عدد المشاركين فيها إلى مئة في أحسن الأحوال، وإن زادت في مطالبها تقمع من أمن «الدويلة» في رام الله، وباقي الوقفات «التضامنية» قد لا يصل عدد المشاركين فيها إلى عشرات.

أما عن فعل السلطة الحاكمة في رام الله، فهي يمكن أن تحاصر مخيم جنين لـ 44 يوماً ضمن عملية أسمتها «حماية وطن» (ممن!، عباس ورَبعه يعرفون فقط)، انتهت في 18 كانون الثاني الماضي، وساعدت أو مهّدت(!) لعملية «السور الحديدي» التي ابتدأتها إسرائيل ضد مخيمات شمال الضفة الغربية في 21 كانون الثاني 2025، وأدت حتى اليوم إلى هدم مئات المنازل في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، ونزوح أكثر من خمسين ألفاً من اللاجئين الفلسطينيين الذين يسكنون هذه المخيمات. ومع ذلك لم تخرج «تظاهرة» واحدة في «الدويلة» للتنديد أو الرفض أو «التضامن».

يحدث هذا، وفي إسرائيل خلاف واضح بين الحكومة ومعارضتها، لكن هناك اتفاقاً علينا، وليس لدى أحدهم مشكلة أو ريب في صحة ما يرتكبه جيشهم في غزة أو الضفة. وبالاختصار ذاته، لدينا سلطة تحارب «حماس» و«الجهاد» وكل من يقاتل، وتريد انكسارهم، بذريعة الحفاظ على الشعب، في حين أن ما بدأته إسرائيل في شمال الضفة سينسحب على باقي مخيمات الضفة وقراها ومدنها، الخالية تقريباً من السلاح، أو المشابه لما كان موجوداً في غزة.

ومع ذلك عملية إسرائيل العسكرية مستمرة، وليس هناك من يوقفها، وهنا تسقط حجة السلطة عليها، وليس على أحد سواها. أما «حماس» فليست أحسن حالاً، تريد ما كانت تريده قبل الحرب، وترفض النظر إلى المتغيرات، مع أنها تقول إنها موافقة على كل شيء يطرح في ما يخص «اليوم التالي» طالما هو فلسطيني بالكامل، إلا أنها لا تجيب صراحة، حول رؤيتها لموقعها في اللحظة التالية للحرب، وفي ما لو آلت الأمور كلها للسلطة في رام الله.

مشاهد فلسطينية مبكية

أيضاً على صعيد حكاياتنا المبكية أمام دم أهلنا في غزة. في أول أيام العيد، انتشر فيديو للمدعو حسين الشيخ، الذي يبدو أن عباس يمهّد له رئيساً، أو أن أحداً يمهّده لعباس. المهم وصل الشيخ إلى مثوى الشهيد ياسر عرفات كما تجري العادة، فاستقبلته محافظة رام الله والبيرة ليلى غنام بالأحضان، وكان خلفها صف من القيادات الفلسطينية الفتحاوية و«اليسارية»، تبادلوا التحيات، ومشوا إلى جانبه وخلفه. وهذا المشهد الأول المبكي، أما المبكي أكثر، أن قيادات تنظيمية لبعض المنتظرين أخذ بركات الشيخ، يقدحونه بأبشع الصفات، كما يقدحون رئيسه عباس.

مشهد آخر يوم السبت الماضي، بطلته ليلى غنام أيضاً، وبعض القيادات أثناء افتتاح «مول» في «الدويلة». أظهرت الصور والفيديوهات مهرجاناً احتفالياً، من دون احترام للدم المسفوك في غزة والضفة، ولسوء حظ المفتتحين، أن الصور انتشرت، بينما المستشفى المعمداني يُقصف. وحتى لو انتشرت قبل ذلك أو بعده، ما كان ذلك ليغير شيئاً، فالواقع أصبح منحطاً، ويشير إلى أننا ربما لسنا شعباً واحداً، بل إن فينا ما يدلل على أن الوطنية الفلسطينية أصبحت على محك التحلل والتفكك.

أخيراً

غزة وحدها، والشعب الفلسطيني هناك وحده، والمخيمات في الشتات لم تؤد دورها كما يجب، حاولت وتحاول، كما كثر من أبناء الشعب الفلسطيني يحاولون. لكن شعبنا (وهنا أعود إليها لأن لديّ أمل) بلا قيادة، وهو يحتاج إلى ما يجمعه، لا إلى ما يفرقه، والمسؤولون في سلطة «الدويلة» يفرقون، ويمعنون في تشتيت إضافي للشعب الفلسطيني.

أمامنا استحقاق مصيري كشعب من أجل قضيتنا، وفاء لمئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب الذين قضوا على هذه الطريق منذ أكثر من مئة عام، ووفاء لملايين المحاصرين في الداخل من الاحتلال وأعوانه، ووفاء لملايين اللاجئين الفلسطينيين الملوعين في الخارج، ولملايين الصادقين مع فلسطين حول العالم. هذا الاستحقاق، يتطلب منا النهوض، فإما ننجح، أو نهوي أكثر. ومن أجل أن ننجح، لا بد أن نُسكت أولا كل عابث بمستقبل شعبنا وقضيتنا، وأولهم من كانوا منا، أصحاب العطوفة والمسؤولية والقيادة، النساء منهم والرجال، في الداخل والخارج، والذين بين بين.

حالة الطقس

حالة الطقس

جارٍ تحميل بيانات الطقس...

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
ثريدز
لينكد إن
تيليغرام
الأيميل
بين تريست
طباعة