منذ 20 عاماً يلازم مرض السكري الحاج أبو أحمد البنا. بدأ المرض بالنوع الثاني من المرض المزمن، ومع تقدمه بالعمر تحول إلى النوع الأول حيث يتعين عليه استخدام حقن الأنسولين بشكل يومي ومنتظم.
مضت الأيام مع الحاج السبعيني وقد تعايش مع المرض، واحتياجات جسده من الطعام والشراب وأوقات تناولها، فكما يقول الرجل الذي عمل ممرضا “السكري مرض يحتاج لأنه تفهمه لا أن تعانده، لكن مضاعفاته شر لا بد منه مع التقدم بالعمر”.
ويوضح أن أكثر المضاعفات تأثيرًا على صحة المريض هي ضعف الإحساس بالأعصاب الطرفية في نهايات الأصابع وهي ضرورية لتجربة الإحساس باللمس، والألم، ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى التحكم في حركة العضلات في اليدين والقدمين، وتقوية أعصاب العين “ولهذا السبب يصرف الأطباء أدوية عصبية وفيتامينات بي المركبة للحد من تطور المشكلة”.
هذه الأدوية وغيرها ممن يحتاجه أصحاب الأمراض المزمنة لم تعد متوفرة في الصيدليات قطاع غزة من رفح إلى بيت حانون، نتيجة استمرار الحصار الذي تفرضه سلطات الاحتلال على القطاع منذ 2 مارس/ آذار الماضي، حيث يمنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، ما زاد من تدهور الحالة الصحية لآلاف المرضى.
ويشرح الحاج البنا أهمية هذا النوع من الفيتامينات لمرضى السكري، في قدرتها على ترميم الاعتلال العصبي السكري، كما تؤدي دورًا في تحويل الطعام إلى جلوكوز، مما يزود الجسم بالطاقة، “لكن واقع الحال في غزة بائس، فلا طعام صحي ومغذي فضلاً عن الدواء”.
خلال 21 شهراً على حرب الإبادة المتواصلة، فقد الحاج البنا زهاء 20 كجم من وزنه، ولم يعد يقوى على ممارسة جهد بدني كبير، وتنتابه بين فترة وأخرى نوبات هبوط حاد في السكر تترافق مع إجهاد بدني وتعرق شديد.
ويبين أن هذه النوبات تحدث لأسباب عدة وكلها تجتمع اليوم لدى جميع مرضى السكري في القطاع المنكوب، نتيجة سوء التغذية، وعدم تناول الطعام في الوقت المناسب، الجوع لفترة طويلة، وهذا يترافق مع انتظام المرضى في تناول جرعات الأنسولين المسؤولة عن وصول السكر إلى خلايا الجسم، ويؤدي هذا إلى انخفاض مستوى السكر في الدم”.
ووفق معطيات نشرها مركز الميزان لحقوق الإنسان، يقدر عدد المصابين بأمراض مزمنة في قطاع غزة بحوالي 350 ألف مريض يحتاجون إلى رعاية صحية حرجة، من بينهم أكثر من 71 ألف مريض مصاب بداء السكري، فيما بلغ معدل الوفيات نتيجة المرض 2.7 لكل 1000 مريض.
في حين يبلغ عدد مرضى ضغط الدم 105,558 مريض، بمعدل وفيات 2,2 لكل 1000 مريض.
الدواء الموحد لا يكفي
أما ناصر أيوب (60 عاما)، فقد اجتمع عليه اعتلال عضلة القلب ومرض الدم المرتفع، الذي يعاني منه أيضًا اثنين من أبنائه، أحدهم (15 عاما) وقد أكتشف المرض لديه خلال العام الأول من الحرب.
يقول: “إصابة أصغر أبنائي بالمرض اللعين صدمني لا سيما أن شقيقه الأكبر يعاني من المرض أيضًا منذ 5 سنوات. أدرك معنى أن يصاب شاب بهذا المرض في سن مبكرة، فقد أخذ من صحتي ما أخذ. والدواء المتوفر الذي تصرفه الأونروا لا يفيد جميع المرضى، فالبعض يلائمه علاج لا يلائم الآخر، فضلًا عما يسببه المرض من احتباس السوائل في الجسم، خاصة في الأطراف السفلية مثل القدمين والكاحلين، بسبب زيادة الضغط على الأوعية الدموية”.
ويلفت إلى أن مضاعفات المرض في هذه الأوقات مضاعفة، فالأطعمة المعلبة تعد سببًا في ارتفاع ضغط الدم بسبب محتواها العالي من الصوديوم، وهو الملح الذي يستخدم للحفاظ على الأطعمة المعلبة وإطالة مدة صلاحيتها. ويضيف: “توقفنا عن البحث في الصيدليات عن العلاجات البديلة، لأن الصيدليات فارغة من علاجات الأمراض المزمنة”.
ومنذ أشهر لم تتوقف تحذيرات وزارة الصحة في غزة من أزمة نقص الأدوية والمستهلكات الطبية نتيجة منع الاحتلال إدخالها، ما ينذر بمخاطر كبيرة على حياة آلاف المرضى من مختلف الفئات العمرية، خصوصاً كبار السن والأطفال والنساء الحوامل.
ووفق دائرة الصيدلة في الوزارة، فإنّ أكثر من 47%، من إجمالي الأدوية الأساسية المتداولة في مستشفيات القطاع ومراكز الرعاية الأولية أصبح رصيدها “صفراً”، فيما تبلغ نسبة العجز في المستهلكات الطبية 65%.
مخاطر تحول الأمراض إلى مزمنة
ويؤكد مدير عام الإغاثة الطبية الفلسطينية في غزة، بسام زقوت، أن هناك نقصاً حاداً في مختلف أصناف الأدوية الأساسية، والكميات المتوفّرة في المراكز الطبية لا تكفي لتغطية الاحتياجات، حسب نوع الدواء وظروف التوزيع.
ويوضح زقوت، أن بعض الأدوية مقطوعة تماماً، خصوصاً أنسولين الأطفال، وأدوية الأمراض المزمنة، مثل فيتامينات بي المركبة، وأدوية سيولة الدم لمرضى القلب والجلطات، إضافة إلى نقص كبير في الفيتامينات الأساسية مثل الحديد الضروري لصحة الحوامل والمرضعات.
ويلفت إلى أن الأزمة تطال أدوية الغدد، والالتهابات، والمسكنات القوية لجرحى الأطراف المبتورة، مشيراً إلى أن هؤلاء يعانون ألماً غير محتمل في الليل لأن الجسم لم يتأقلم بعد على فقدان الطرف.
ويشدد زقوت على نقص الدواء يخلف انعكاسات خطيرة على المرضى، وبات عدد كبير منهم يعاني من اعتلال صحي لأنه لا يحصلون على علاجهم فضلًا عن الغذاء، ما يهدّد بتحول بعض الحالات إلى أمراض مزمنة، أو التعرض لمضاعفات يصعب علاجها لاحقاً، خاصة في ظل غياب الرعاية المنتظمة.
تحذيرات متكررة من الكارثة
وفي هذا الإطار يقول مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، إن إغلاق معابر غزة ومنع إمدادات الأدوية والمواد الطبية، أدى لنفاد 229 صنفا من الأدوية بشكل كامل، بما نسبته 37% من مجمل الأدوية، في حين أن 597 صنفا من المستلزمات الطبية رصيدها صفر، بنسبة عجز وصلت 59%.
ويوضح البرش، أن 58 صنفا من الأدوية، وتقدر بـ9% من مجمل الأصناف، لا تكفي إلا لوقت محدود، وكذلك 84 صنفا من المستهلكات الطبية بما نسبته 8% من مجموعها.
وحسب البرش فقد احتلت أدوية السرطان وأمراض الدم المرتبة الأولى ضمن قائمة الأدوية المفقودة، حيث بلغت الأدوية الصفرية منها 54%، وتلا ذلك أدوية صحة الأم والطفل التي بلغت نسبة العجز فيها 51%، ومن ثم المطاعيم بنسبة 42%.
ووصل رصيد الأدوية الصفرية من مجمل أدوية الرعاية الصحية الأولية إلى 40%، و25% من أدوية الكلى والغسيل الدموي، و24% من أدوية الصحة النفسية والأعصاب، و23% من مجمل أدوية الجراحة والعمليات والعناية الفائقة.
ويلفت البرش إلى أن الكثير من المستهلكات الطبية عدد أصنافها صفر، حيث وصلت نسبة العجز في مستهلكات القسطرة القلبية والقلب المفتوح إلى 99%، و87% من المستلزمات الخاصة بجراحة العظام، و73% من المتعلقة بالعيون، و45% من المخصصة للكلى والغسيل الدموي، و27% للجراحة والعمليات والعناية الفائقة، و15% من المخصصة للطوارئ، و10% للأسنان.