كتب رمزي عوض
لقد أهداني الأستاذ عاهد أحمد جمعة نسخة من كتابه الجديد “الرؤية اللبنانية والفلسطينية لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان – دراسة مقارنة”، وكوني مهتمًا وكاتبًا في قضايا اللاجئين الفلسطينيين، وجدت نفسي أمام عمل مختلف تمامًا عن كل الكتب التي قرأتها في هذا المجال، هذا الكتاب لا يُقرأ كأي دراسة تقليدية، بل كوثيقة تأسيسية، كدستور جديد، وخارطة طريق متكاملة، تفتح أفقًا جديدًا لبناء علاقة سليمة ومتوازنة بين اللاجئين الفلسطينيين والمجتمع اللبناني بكل أطيافه ومشاربه، إنه كتاب لا يكتفي بالتحليل، بل ينحاز للفعل مع خطة وافية، ويقدّم رؤية استراتيجية ناضجة، تضع منهجًا متكاملًا لحوار شفاف ومسؤول، وتجنّب الطرفين الوقوع في فخ الانفعالات والمخاوف، تكون لصالح مشروع مشترك وعدالة إنسانية غابت طويلًا عن دائرة الضوء.
لقد كنت أرى أن جوهر الإشكالية، من وجهة نظري الشخصية – وليس بالضرورة من وجهة نظر الكاتب – أن العلاقة بين اللاجئين الفلسطينيين ومضيفيهم اللبنانيين ظلت محكومة بقدر كبير من الغموض والقلق المتبادل، انعكس بشكل مباشر على القوانين اللبنانية من جهة، وعلى سياسات اللاجئين الفلسطينيين وتوجّسهم الدائم من تلك القوانين من جهة أخرى، فجاء هذا الكتاب ليكسر هذا الجمود، ويعيد صياغة أسس العلاقة، ويقترح نهجًا واضحًا للخروج من تلك الدوامة التاريخية.
يعمد الكاتب والباحث الحقوقي عاهد جمعة في هذا العمل البحثي العميق إلى مقارنة دقيقة بين الرؤية اللبنانية الرسمية والشعبية من جهة، والرؤية الفلسطينية السياسية والمجتمعية من جهة أخرى، تجاه قضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان، وبينما ينطلق من خلفية قانونية وحقوقية، فإنه لا يغفل تعقيدات الواقع السياسي والأمني والإنساني، بل يحفر عميقًا في طبقات التصورات المتضاربة، ليبني تصورًا إنسانيًا واقعيًا يستند إلى الفهم المشترك لا التنازع.
وفي سياق تأصيل الرؤية اللبنانية، يستند الكاتب إلى وثيقة الحوار الوطني اللبناني التي صدرت عن سلسلة اجتماعات دعا إليها الرئيس نبيه بري عام 2006، وشكّلت محطة مركزية في صياغة الموقف الرسمي اللبناني من قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقد أكدت هذه الوثيقة على رفض التوطين بشكل قاطع واعتباره مخالفًا للدستور، وعلى التزام لبنان بدعم الحقوق الإنسانية والاجتماعية للاجئين داخل أراضيه، دون المساس بسيادته، مع اعتبار حق العودة الخيار الوحيد العادل والدائم.
ويُعزّز جمعه هذا التوجه بمرجعية إدارية وتشريعية واضحة، بسرد تاريخي مقارن، أخترت منها قرار مجلس الوزراء اللبناني رقم 40/2022 القاضي بتأليف فريق عمل رسمي لمعالجة قضايا اللاجئين الفلسطينيين، يضم هذا الفريق ممثلين عن وزارات الدفاع والداخلية والتربية والأشغال والعمل والشؤون الاجتماعية، إلى جانب الأمن العام، برئاسة الدكتور باسل الحسن، وقد أُوكلت إليه أربع مهام رئيسية: معالجة القضايا الحياتية والاجتماعية والحقوقية والأمنية داخل المخيمات بالتعاون مع الأونروا والمؤسسات المعنية، ووضع آلية لإنهاء السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وتنظيم وضبط السلاح داخلها، إضافة إلى تنسيق الجهود مع المجتمع الدولي لتأمين الدعم السياسي واللوجستي المطلوب.
أما في الرؤية الفلسطينية، والتي اخترت منها اظهار الكاتب تمسكًا واضحًا بحق العودة ورفضًا صريحًا للتوطين، مع التأكيد على ضرورة تحسين أوضاع اللاجئين داخل لبنان كحق إنساني غير مرتبط بأي تسوية سياسية مستقبلية، ويدعو الكاتب من خلال هذه الرؤية، إلى إعادة ضبط العلاقة مع الدولة اللبنانية ضمن إطار من الاحترام المتبادل والاحتكام إلى القانون، بعيدًا عن الفوضى أو العنف والتجاذبات السياسية.
ويلاحظ الكاتب أن هذه الرؤية الفلسطينية، رغم عدالتها، لا تزال تفتقر إلى مرجعية موحدة تمثّل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بشكل جامع وقادر على التفاوض والتنسيق مع الدولة اللبنانية، ما يجعل الحاجة ملحّة لتشكيل هذا الكيان المرجعي الوطني الفلسطيني، كمدخل رئيسي لتنظيم العلاقة وبلورة موقف سياسي وانساني مشترك.
يقدّم الكتاب طرحًا جريئًا: هل يمكن التوصل إلى رؤية لبنانية فلسطينية مشتركة لقضية اللجوء؟ الجواب، كما يقدّمه الكاتب، هو نعم، بشرط توفر الإرادة السياسية، والتحرر من إرث الشكوك والمخاوف المتراكمة، على قاعدة التعلم من التاريخ، ويضع الكاتب توصيات عملية لبناء هذه الرؤية، مستندًا إلى الوثائق القانونية والدستورية، وإلى التجارب الميدانية المتراكمة من واقع المخيمات.
وفي النهاية، لا يسعني إلا أن أؤكد أن هذا الكتاب الذي يتكون الذي جاء في 159 صفحة ليس مجرد دراسة أكاديمية باردة، بل هو نداء حار للحوار، وإطار تأسيسي للتفاهم، ومشروع وطني جامع، فلسطيني لبناني، أنصح بقراءته بتمعّن، خاصة من قبل مراكز القرارا الفلسطينية واللبنانية على حد سواء، لأنه يقدّم مساهمة فكرية وعملية جريئة في إعادة تعريف العلاقة بين الشعبين، على قاعدة الشراكة لا الخصومة، والتكامل لا التصادم، والحقوق لا التنازلات، لأنه كتاب يجب أن يكون على طاولة صانعي القرار، كما يجب أن يُقرأ في الجامعات والمنتديات والهيئات الحقوقية والمجتمعية، لما فيه من شجاعة في الطرح، وعمق في الرؤية، ونَفَس طويل من الواقعية والنُبل الإنساني.