بقلم: عصام الحلبي
الكتاب كوثيقة تأسيس لا كسرد توثيقي
لا يمكن التعامل مع كتاب «اللاجئون الفلسطينيون في لبنان: الحقوق الإنسانية والمخاوف السياسية» للوزير حسن منيمنة باعتباره مجرد توثيق لأعمال لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني خلال سبع سنوات. فالكتاب يُشكّل مرجعية فكرية ومؤسساتية، تمخّضت عن مسار طويل من النقاشات السياسية والميدانية، ومن صياغة توافقات دقيقة بين الأطراف اللبنانية، بدعم وتعاون فلسطيني رسمي مباشر.
الكتاب هو وثيقة تأسيسية، تُعبّر عن قناعة لبنانية متقدمة تمثّلها الوزير منيمنة، كما تُشكّل قاعدة يمكن أن ينطلق منها الطرف الفلسطيني في أي نقاش مع الدولة اللبنانية حول قضايا الحقوق، الخدمات، والكرامة الإنسانية.
أولًا: منطلقات منهجية – دولة تعترف بالواقع بدل الخوف منه
تقوم المقاربة التي اعتمدها الوزير منيمنة على فكرة أساسية: لا يمكن بناء سياسة عامة عادلة دون فهم دقيق واعتراف واقعي بالحقائق الديموغرافية والاجتماعية. ومن هنا، فإن الكتاب يُبنى على ركيزتين رئيسيتين:
1. وثيقة الرؤية اللبنانية الموحدة (2016–2017) التي أُقرت بمرسوم جمهوري، وتشكل أول إجماع سياسي رسمي لبناني حول مقاربة إنسانية-سيادية متوازنة.
2. نتائج التعداد السكاني المشترك (2017)، بالشراكة مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني وجهاز الإحصاء الفلسطيني، والتي قدّمت ولأول مرة صورة موثوقة لحجم وظروف الوجود الفلسطيني في لبنان.
ثانيًا: الرؤية اللبنانية الموحّدة – منطق الدولة لا خطاب الخوف
تنص الوثيقة التي بُني عليها القسم الأكبر من الكتاب على أن تحسين أوضاع اللاجئين لا يتناقض مع السيادة اللبنانية ولا مع رفض التوطين، بل يعزّز الاستقرار ويخدم مصلحة لبنان العليا.
وقد علّق الوزير منيمنة في أكثر من مناسبة رسمية على هذه الرؤية بالقول إنها تمثّل “خطوة تأسيسية أولى لسياسات عقلانية تحفظ الحقوق وتحدّد الواجبات وتُخرج الملف الفلسطيني من منطق إدارة الأزمة إلى منطق الشراكة المجتمعية”.
هذا الموقف الرسمي، الذي وُثّق في الكتاب، يجب أن يُعتَمد اليوم كأساسٍ في عمل لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني برئاستها الجديدة، ويُعامل كإطار وطني جامع لا يخضع لاجتهادات متفرقة.
ثالثًا: التعداد المشترك – نهاية الأسطورة وبداية السياسات
قد يكون التعداد الرسمي (2017) هو أحد أهم المحطات في الكتاب، حيث يشكّل لحظة فاصلة في تاريخ العلاقة بين الدولة اللبنانية واللاجئين الفلسطينيين. فالنتائج، التي بلغت نسبة تغطيتها 97.7٪، أطاحت بالتقديرات العشوائية والمضخّمة، وكشفت أرقامًا دقيقة:
174,422 لاجئًا فقط داخل لبنان
نسبة بطالة شبابية مرتفعة تصل إلى 44٪
أمية بنسبة 7.2٪ فقط، ما ينسف صورة التهميش الثقافي الكامل
أكثر من نصف اللاجئين داخل المخيمات، والباقون في تجمعات محاذية أو مناطق مدينية
وهنا يوضح منيمنة أن:
“الاستقرار يبدأ من العدالة، والمقاربة العقلانية تبدأ من الرقم لا من الشعور.”
رابعًا: مقاربة متوازنة – لا للتوطين، نعم للحقوق
التمييز بين الحقوق الإنسانية وهاجس التوطين هو محور المقاربة التي يدافع عنها الكتاب، والتي يصفها الوزير منيمنة بأنها “توازن دقيق بين السيادة والعدالة”. إذ لا يوجد أي تناقض بين:
رفض التوطين باعتباره موقفًا سياديًا جامعًا
ومنح الفلسطيني حق العمل والعيش الكريم في لبنان ريثما يعود إلى وطنه
ويشدد الكتاب على أن إنكار الحقوق هو مدخل للهشاشة الأمنية والاجتماعية، لا لحماية الهوية أو السيادة.
خامسًا: التوصيات – خارطة طريق لا تنتقص من السيادة
الكتاب ينتهي بسلسلة من التوصيات، تشكّل أجندة عمل واقعية للجنة الحوار، ومنها:
1. تعديل قانون العمل بما يسمح للفلسطيني بالوصول إلى الوظائف المقوننة.
2. السماح بتملّك سكن في إطار ضوابط قانونية واضحة.
3. إدماج الفلسطينيين في الخدمات الصحية والتعليمية.
4. اعتماد التعداد كمرجعية رسمية وحيدة.
5. كسر الصورة النمطية عبر الإعلام المسؤول.
وقد وصف الوزير منيمنة في أكثر من لقاء هذه التوصيات بأنها “الحد الأدنى من العدالة، الذي لا يهدد الدولة بل يحميها”.
سادسًا: نحو شراكة لبنانية–فلسطينية جديدة
الكتاب يدعو إلى الانتقال من علاقة أمنية تقليدية إلى علاقة شراكة تنموية ومجتمعية، تضمن الاستقرار وتحترم حقوق الإنسان. ولهذا، فإن على اللجنة الجديدة، برئاسة السفير رامز دمشقية، أن تبدأ من هذا الكتاب، لا تجاوزه، وأن تعمل على استكمال ما بدأه الوزير منيمنة.
كما على القيادة الفلسطينية أن تتبنّى هذه الوثيقة كأرضية رسمية في كل تواصل مع الدولة اللبنانية، لا سيّما أنها أُنجزت بمشاركة فلسطينية فاعلة، وشكّلت لحظة نادرة من التقاطع بين المطلب الإنساني الفلسطيني والمصلحة الوطنية اللبنانية.
وثيقة من أجل المستقبل
ليس كتاب الوزير حسن منيمنة مجرد سرد لتجربة حكومية، بل هو وثيقة وطنية علمية وسياسية قابلة للبناء عليها. ومن المؤسف أن تتعامل معها الدولة اللبنانية أو القيادة الفلسطينية كوثيقة من الماضي. إنها نقطة انطلاق لسياسة لبنانية جديدة تجاه الفلسطينيين، لا تُفرّط بالثوابت، ولا تهمل الواقع.
الكرامة المؤقتة في انتظار العودة ليست تسوية، بل خطة عمل أخلاقية وسياسية طويلة النفس، يمكن أن تؤسس لأفق جديد في علاقة الفلسطينيين بلبنان، قوامه الحقوق والاحترام المتبادل، لا الخوف والاشتباه.