آخر الأخبار

فتح تعيد بناء الثقة الأمنية في مخيمات لبنان: انضباط جديد يواجه الفوضى ويستنهض الأمل

b3454fc4-f3af-4de9-90bc-a1918a644c18

تحقيق: عصام الحلبي
ملاحظة: يعتمد هذا التحقيق على شهادات ميدانية وآراء مطّلعين من داخل الجسم الفتحاوي وفاعلين في الوسط الشعبي الفلسطيني في لبنان. تم احترام رغبة جميع من أدلوا بشهاداتهم بعدم الكشف عن أسمائهم، حفاظًا على خصوصيتهم، ولضمان نقل المزاج العام بموضوعية وتجرد. نضع بين أيديكم هذا التحقيق الصحفي.

في مشهدٍ فلسطينيّ يتّسم بكثيرٍ من التعقيد، وعلى وقع المتغيرات المتسارعة في المنطقة بشكل عام، وفي فلسطين بشكل خاص جاءت خطوة إعادة هيكلة الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان، بقيادة لجنة مكلّفة من رئيس دولة فلسطين السيد الرئيس محمود عباس، برئاسة اللواء العبد إبراهيم خليل، لتفتح الباب أمام خطوة إصلاحية طال انتظارها.
هذه الخطوة، وإن بدت في ظاهرها ادارية تنظيمية، فإنها في جوهرها محاولة لإعادة الاعتبار إلى مفهوم الانضباط، وتكريس المأسسة في جهاز شهد في السنوات الأخيرة تراجعًا واضحًا في فاعليته واضطراب في أداء مهامه.

حراك مفاجئ… لكنه ضروري

ما ميّز هذا التحرّك أنه تم بهدوء ومسؤولية، لكنه في الوقت ذاته أحدث صدمة إيجابية داخل الأوساط الفتحاوية والشعبية. فالمخيمات التي اعتادت على نفوذ قوى أمر واقع محلية، فوجئت بعملية تسلّم وتسليم فعلية وجدية، شملت خمس مناطق مركزية، صيدا، صور، بيروت، البقاع، وطرابلس.

لجنة لم يقتصر عملها على الإدارة من خلف المكاتب، بل انخرطت ميدانيًا، التقت، استمعت، وراقبت تفاصيل الواقع الأمني والخلل القائم، ثم اتخذت قرارات حازمة – وإن كانت جزئية – منحت كثيرين أملًا بأن هناك من لا يزال يأخذ الأمور على محمل الجد والمسؤولية.

تراجع الصورة وخلل بنيوي

لسنوات، بدا الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان وكأنه يدور في حلقة مفرغة توزّع للنفوذ على أساس الولاءات، وغياب واضح لمعايير التكليف، ضعف في المتابعة والانضباط، وتراجع في أداء الكادر الميداني نتيجة الإهمال والتهميش واستسابية المعايير في التعينات.

هذا الواقع، بحسب من استطلعنا آراءهم من كوادر حركة فتح، أدى إلى اهتزاز صورة الأمن الوطني، بل وتراجع الثقة الشعبية بدوره، خاصة مع تصاعد مظاهر الفلتان، ووقوع حوادث أمنية خطيرة لم يُحسن التعامل معها، فضلًا عن تنامي ظواهر مثل انتشار السلاح غير المنضبط، وازدياد شكاوى الناس من غياب مرجعيةمسؤولة واضحة تحفظ أرواحهم وكرامتهم.

الأمن لحماية الناس… لا لضبطهم فقط

أحد المحاور الأساسية التي يجب أن يُعاد النظر فيها، كما يرى بعض من تحدثوا إلينا، هو مفهوم وظيفة الأمن الوطني. فالمطلوب لم يعد مجرد الحضور العسكري أو القدرة على التدخل عند الحاجة، بل التحوّل إلى قوة مجتمعية تحمي الناس وتمنع الفوضى والإنفلاش، في ظل تحديات متنامية تعاني منها

المخيمات الفلسطينية في لبنان تتمثل في:

تفشّي المخدرات بشكل خطير،

ازدياد تجار السلاح وأدوات الجريمة.

محاولات خارجية لاختراق البنية الاجتماعية وتحويل المخيمات إلى ساحات فوضى امنية.

هذه التحديات لا يمكن مواجهتها إلا بجهاز أمني يمتلك الشرعية الأخلاقية قبل السلطوية، يتعاون مع القوى الاجتماعية، ويضرب بيد القانون لا باسم التنظيم، ويُعيد الشعور بالأمان لا بالهيبة الشكلية.

الحقوق لا تُنسى… والتنظيم لا يُغني عن الكرامة

ورغم الانشغال الواضح بملف إعادة هيكلة الأمن الوطني الفلسطيني وترتيب البيت الداخلي لحركة “فتح” في لبنان، إلا أن ذلك لا يُعفي القيادة الفلسطينية من مسؤولياتها الكبرى تجاه أبناء شعبها اللاجئ في لبنان، الذين ما زالوا يرزحون تحت حرمان قاسٍ من حقوقهم المدنية والإنسانية.

فالتنظيم والانضباط مهمّان، ولكن لا يمكن فصلهما عن السياق الأشمل، حيث تُشكّل قضايا العمل، والتملك، والحقوق الإنسانية، والحق في الكرامة والعيش الكريم، مطالب أساسية لا تقل أهمية عن الأمن.

بل إن تحقيق الأمن الحقيقي يبدأ من تحصين المجتمع الفلسطيني اجتماعيًا واقتصاديًا، وتكريس حقه في العيش بحرية وكرامة على أرض اللجوء، دون أن يُطلب منه التخلي عن هويته أو حقه في العودة.

لا إصلاح بلا عدالة تنظيمية

مع كل هذه الخطوات، ومن أجل تحقيق التغيير الحقيقي يتطلب معالجة جذرية لواقع الكادر العسكري والتنظيمي. فقد باتت المشاكل المعيشية تشكّل عائقًا كبيرًا أمام أي تطوّر وظيفي نضالي.

رواتب فقدت قيمتها بالكامل مع انهيار الليرة اللبنانية، وتدني في الخدمات

تراكم ملف الترقيات والرتب المستحقة.
وتهميش للكوادر ذات الخبرة لصالح الولاءات أو التسويات التي تراعي مصالح قوى النفوذ.

من دون عدالة داخلية وإنصاف للكوادر، لن ينجح أي جهاز مهما كانت نواياه. فالعنصر الذي يشعر بالغبن، لا يستطيع أن يحمي، ولا أن يلتزم، ولا أن يكون طرفًا فاعلًا في مشروع حماية المجتمع.

مرحلة انتقالية أم بداية لتغيير حقيقي؟

الأنظار اليوم تتجه نحو ما بعد اللجنة، هل سيُستكمل هذا الحراك بخطوات أعمق؟ هل هناك نية لإطلاق خطة إصلاح شاملة، أم أن ما جرى هو مجرد إجراء ظرفي لاحتواء التراجع؟

الإجابة لا تزال ضبابية، لكن ما هو مؤكد أن الأرضية باتت جاهزة، وهناك رغبة شعبية وتنظيمية لأن تستعيد “فتح” زمام المبادرة، وتنقل المؤسسة الأمنية العسكرية من حالة الدفاع إلى المبادرة، ومن التوزيع والمحاصصة إلى البناء.

فرصة لإعادة بناء الثقة

ما تحقق حتى الآن مهم، لكنه غير كافٍ. التحدي الحقيقي يبدأ من الآن، في ما إذا كانت هذه المبادرة ستُؤسس لمسار جديد، يكون فيه الأمن الوطني جهازًا محترفًا، مسؤولًا، وقادرًا على لعب دوره الحقيقي.

إن إعادة الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان إلى سكّته الصحيحة لا ينفصل عن استعادة صورة “فتح” كمشروع وطني مقاوم ومنظّم، يقود لا يناور، ويحاسب لا يساوم، ويرفع الجميع إلى مستوى المسؤولية، لا يُدير مصالح متصارعة.

بهذا المسار فقط، تُبنى الثقة، ويُستعاد دور الأمن كحامٍ لا كخصم، وكجزء من الحل لا من المشكلة.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة