آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [12]

212

أسعد أبو خليل

حزب الله عشيّة حرب الإسناد (2)
ثالثاً، مسألة التفرّغ: مسألة التفرّغ لم تأتِ إلى حركات المقاومة اللّبنانية والفلسطينيّة إلا بسبب وفرة المال، لا الحاجة العسكريّة الماسّة. ووفرة المال مقتلة. هي التي قادت إلى فرض قيادة ياسر عرفات ضدّ كلّ أترابه في قيادة حركة «فتح»، وهي التي فرضت «فتح» ضدّ كلّ التنظيمات الأخرى (طبعاً خطّها السياسي كان أقرب إلى مزاج الناس من الماركسية-اللّينينيّة ومسائل التناقضات الرئيسة والثانوية).

وفرة المال كانت المدخل الذي نفذت منه أنظمة الخليج كي تحدّ من الاتّجاهات الثوريّة في صفوف تنظيمات المقاومة، وفي داخل «فتح». كان عرفات يتلقّى الدعم المالي مقابل الترويج للتسويات التصفوية الاستسلاميّة -بلغة الزمن الثوري الجميل.

كان يُقال في زمن منظّمة التحرير في بيروت: «ثورة حتى آخر الشهر» بدلاً من «ثورة حتى النصر». كان ذلك إشارة إلى عامل الانتظام بدافع المال والوظيفة لا بدافع الثورة. سادت حالة فظيعة من الاسترخاء في صفوف المنظّمات اللّبنانيّة والفلسطينيّة. التفرّغ ليس دائماً عكس التفاني، لكن قد يكون كذلك في الكثير من الأحيان. التنظيمات الصغيرة كانت الأقل قدرة على تمويل التفرّغ الكامل للأعضاء لأنّ ذلك يتطلّب ميزانية ضخمة.

هذه الميزانيّة (من ميزانيّة منظّمة التحرير) خلقت قطاعاً كبيراً من الوظائف الثوريّة. «الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديموقراطيّة» لم تعارض التفرّغ طالما كان هناك وفرة ماليّة للتغطية من قيادة عرفات. حتى واجبات الحراسة أمام مكاتب التنظيمات التي كانت تتعرّض لقصف إسرائيلي، كان يقوم بها أعضاء متفرّغون يقبضون مرتّباتهم في آخر الشهر.

المقاومة في زمن منظّمة التحرير كانت في أحيان وظيفةً وفي أحيان أخرى كثيرة نضالاً. يذكر واحد شارك في تدريبات عسكريّة في صفوف تنظيم ثوري صغير أنّ الأعضاء فوجئوا في آخر الدورة بتلقّي مرتّبات للقيام بـ«الواجب الثوري» و«الخدمة الثوريّة». سألهم: كيف يكون هناك مرتّب مقابل خدمة ثوريّة؟ كان العضو في التنظيمات قبْل وفرة المال يدفع مبلغاً شهريّاً إسهاماً منه في ميزانيّة التنظيم، وكان هناك أحياناً اقتطاع للإسهام الشهري الرمزي من المرتّب الشهري.

وكم كان يسود الفرح عندما كان عرفات يأمر بزيادة المرتّبات للمتفرّغين. كان بعض المقاتلين يسافرون لدول قريبة (تركيا أو قبرص) للقيام بسياحات ترفيهيّة. هل أنّ الاسترخاء الفظيع الذي ساد في جنوب لبنان عشيّة الاجتياح الإسرائيلي في 1982 هو نتيجة الالتزام المادي بالتنظيمات وغياب الدوافع المبدئيّة أو تناقص أهميتها؟ نأتي إلى تجربة حزب الله.

لم يسبق أن عمل تنظيم في بيئة معادية كما حالة حزب الله في لبنان عند انطلاقته. في تجربة المنظّمات الفلسطينية، كان هناك بيئة متعاطفة في ظلّ الاحتلال الوحشي. عندما انطلق حزب الله، كانت البيئة المحيطة معادية بالكامل. كان النظام اللّبناني (نظام أمين الجميّل) نظاماً عميلاً للاحتلال يعمل مع إسرائيل في مطاردة المقاومين.

وكان الجيش اللّبناني يطارد المقاومين اللّبنانيّين والفلسطينيّين كالمجرمين. تعرّض الكثير منهم للتعذيب والتنكيل في سجون الجيش اللّبناني وسجون القوات اللّبنانيّة. الكثير منهم لم يَعد (هؤلاء المفقودون منسيّون بالكامل). وكانت الحركة الوطنية قد انهارت بالكامل وأعلن وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم حلّها رسميّاً كردّة فعل على العدوان الإسرائيلي.

الناس (أو أكثرهم) في الجنوب اللّبناني (نتحدّث عن الشيعة تحديداً هنا) كانوا غير متعاطفين (في السَّنة الأولى على الأقل بعد الاحتلال) بالمرّة مع أعمال المقاومة، وكان التعامل الودّي مع جيش الاحتلال الإسرائيلي هو السائد، وكانت دعوات مقاطعة جيش الاحتلال وعدم مصافحة عناصره تُقابَل بالاستهجان والاعتراض (لمستُ ذلك بنفسي في الصيف الطويل في 1982 في جنوب لبنان. التجربة المرّة جعلتني مُشكّكاً بإمكانيّة الوثوق بالمواقف السياسيّة المُطلقة للطوائف كطوائف). ولم يكن النظام السوري مرحِّباً بظهور تنظيمات جديدة موالية للنظام الإيراني وبعيدة عن إشراف المخابرات السوريّة التي كانت تضبط المناطق التي تقع تحت سيطرتها.

لا نعلم الكثير عن طبيعة عمل نواة الحزب في المرحلة الجنينيّة. لعلّ تلك المرحلة من أصعب مراحل النضال الفلسطيني واللّبناني. كم تحمّل العناصر الروّاد من صعاب وتنكيل وعذاب في مرحلة التأسيس والانطلاق. العالم كلّه كان ضدّهم. شدّة الإيمان والالتزام هي وحدها التي شحذت هممهم ولم يكن هناك أيّ منافع. ما أعنيه: العضوية في منظّمات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة قبل 1982 كانت تمنح العضو هيبة ووجاهةً اجتماعيّة ونفوذاً.

العضوية في الحزب في المرحلة الأولى كانت تجلب تهديداً بالموت على مدار الساعة. لهذا: إنّك تجد صلابة حديديّة في كلّ الذين انضووا في صفوف الحزب آنذاك. هذه مثل العضوية في جبهة التحرير الجزائريّة تحت الاستعمار الفرنسي. هذه التجربة في العمل السرّي المقاوم تحت ظروف كلّها معادية وقاسية صنعت التنظيم القوي والحديدي.

عندما يزداد عدد أعضاء الحزب، كيف تغربل الأعضاء؟ كيف تميّز بين الذي ينضمّ كي يُسهم في رفع قضيّة الحزب وبين الذي يبحث عن مصدر رزق سهل؟

التفرّغ في زمن الراحة غيره زمن الحرب والعدوان. كانت تنظيمات الحركة الوطنية والتنظيمات الفلسطينيّة تفتح المكاتب والقواعد في مختلف أنحاء لبنان، بعيداً عن مواقع المواجهة مع إسرائيل. وفتْح المكاتب وملؤها بالمقاتلين والأعضاء كان من سِمات القوّة والنفوذ، بالإضافة إلى وفرة المال.

التضحيات والعذاب الذي عاناه الأعضاء المؤسّسون للحزب لا يُقاس بتجارب أخرى (طبعاً، عانت الأحزاب الوطنية اللّبنانية -خصوصاً الحزب السوري القومي الاجتماعي-الكثير مِن قمْع الدولة قبل سنوات الحرب).
في حالة نشوء الحزب: الكلّ كان معرّضاً للموت في أيّ لحظة، وهذا استمرّ على مدى السنوات باستثناء تجربة القوّة الردعيّة الفذّة قبل الحرب الأخيرة.

كيف يمكن تفسير العضويّة المتفرّغة للحزب في ما بعد؟ صحيح أنّ الحزب كبر وتوسّع وظهر على الأرض بعد مرحلة السرّية الأولى، لكنّه كان دائماً عرضة للقصف الإسرائيلي. أمين عام حزب الله، عباس الموسوي، قُتل مع زوجته وابنهما. هذه إشارات إسرائيليّة معهودة لتجعل أيّ صِلة بالحزب تجربة محفوفة بالمخاطر. الشهادة عند الحزب كانت حالة ترقّب (أو تشوّق) دائمة. هذا أسهم في تحقيق البطولات في معارك الحزب. لكن: هل أنّ الشوق إلى الشهادة دفع البعض في القيادة والقاعدة إلى الاستهتار بالتدابير والوقاية الأمنية البديهيّة؟ هذا حديث آخر.

أنشأ الحزب الكثير من المؤسسات والمراكز وقدّمَ تغطيات الأمن الاجتماعي. حلّ هو مكان الدولة، ليس لخطْفها بل لأنّ الدولة عندنا كانت متقاعسة. الدولة لا تريد القيام بدورها وتتخلّف عن القيام بدورها في الوقت الذي تثور إذا خطف أحدٌ دورَها منها. الدفاع عن لبنان مثلاً: الدولة لا تريد الدفاع عن لبنان (أو أميركا لا تسمح لها بذلك، والأخيرة تسيطر على الجيش لمنْع ذلك) في الوقت الذي تطالب فيه الدولة -بوقاحة- الحزب بالتمنّع عن الدفاع عن لبنان. كيف تستقيم هذه فيما كان الحزب هو الطرف الوحيد الذي أسهم في الدفاع عن لبنان في الحرب الأخيرة، وآزرته في ذلك حركة أمل والجماعة الإسلامية والحزب السوري القومي الاجتماعي على صغر قدرات هذه التنظيمات.

الحزب أنفق بترشيد أفضل من تجربة منظّمة التحرير، إذ أنفق عرفات الملايين لرفع قيادات وتخفيض أخرى والسيطرة على تنظيمات.
وعندما يزداد عدد أعضاء الحزب، كيف تغربل الأعضاء؟ كيف تميّز بين الذي ينضمّ كي يُسهم في رفع قضيّة الحزب وبين الذي يبحث عن مصدر رزق سهل؟ طبعاً، طبيعة عمل الحزب من حيث الاستعداد للتضحية هي كفيلة بغربلة المتطفّلين والمرتزقة وطرْدهم؛ لأنّ هؤلاء لا يمكن أن ينضمّوا إلى حزب يَعِدهم بالشهادة باستمرار.

لكن: الحزب منح لبنان فرصة استراحة بين 2000 و2023 عندما فرض معادلة الردع، باستثناء تجربة حرب تمّوز التي انتصر الحزب فيها. لكن: الحرب السورية كانت مشروعاً مختلفاً وشابتها الكثير من التجاوزات، وكان الجيش السوري يقوم بأعمال سرقة وتعفيش منظّمة، وكان هؤلاء يقاتلون جنباً إلى جنب مع عناصر الحزب. لكنّ التجنيد أو التعبئة التي رافقت المرحلة تلك خلَت من التدقيق والاستقصاء عن الخلفيّة والسيرة. انتفخت بنية التنظيم وتضعضع التماسك والانضباط التنظيمي الذي كان الحزب معروفاً به. التفلّت على مواقع التواصل هو جانب فقط من التغيير الذي طرأ على مواقف الأعضاء والمناصرين وتعبيراتهم.

لكنّها معضلة: حالة التحضّر للحرب مع إسرائيل تستوجب أقصى درجات التأهّب والتنبّه والإعداد، وهذا يفترض وجود مقاتلين متفرّغين. كيف يمكن للمقاتل الرابض على الحدود أن يعتاش لو كان يقضي نهاره وليله متأهّباً ومستعدّاً؟ لكن: التفرّغ -كما شاهدتُ في تجربة منظّمة التحرير- يؤدّي إلى إهمال عنصر التثقيف الحزبي والولاء للحزب يضعف، على الأقل في تجربة منظّمة التحرير. أصبح النضال في تلك المرحلة روتيناً قاتلاً لا تشوبه إلا عمليّات استعراض أو عمليّات ارتجاليّة تقتضيها مناسبات فلسطينيّة وطنية أو أعياد إنشاء التنظيم. كيف تحوّلت بنية التنظيم بوجود كمٍّ هائل من المتفرّغين؟ نصرالله تحدّث عن مئة ألف مقاتل.

ما هي نسبة المتفرّغين منهم؟ وهل أنّ التفرّغ هو أعلى درجات النضال أم إفراز لمرحلة الوفرة في التمويل الخارجيّ المصدر؟ لا نستطيع الجزم في حالة الحزب لأن لا أرقام نهائيّة لدينا وليس من أجوبة من الحزب حول أسئلة لا يحبّذ الحزب طرحها في العلن. من حقّ الحزب -اليوم أكثر من أيّ يوم مضى- اعتماد التضليل والسرّية والتمويه والخداع إزاء العدوّ؛ لأنّ العدوّ عرف عن الحزب أكثر بكثير ممّا عرف عنه أهل الجنوب، وهذه مقتلة.

رابعاً، سرايا المقاومة: قد تكون هذه من أسوأ تجارب الحزب الماضية. هذه كانت ميليشيا بحقّ وحقيق، وميليشيا لا تتميّز أبداً بالانضباط الذي عُرفت به الفرق العسكريّة للحزب. الفكرة من أساسها كانت خاطئة وهي شكّلت عبئاً كبيراً على الحزب. لم نسمع يوماً بالسرايا في حالة اشتباك مع العدوّ أو دفاع عن لبنان. السرايا كانت ترد في الأخبار فقط فيما يتعلّق الأمر باشتباكات وشجارات ونزاعات مسلّحة (كان الحزب يسارع إلى وقفها).

ماذا كان الغرض منها؟ تشكيل طَوق طائفي من المناصرين؟ مَن بقي من هؤلاء المناصرين؟ كان الحزب في خطّته في السرايا يشكّل ميليشيا لا تصلح إلّا لغرض النزاع الأهلي لا لمقاومة إسرائيل. ألم تتلقَّ جماعة المخزومي مثلاً تدريباً وسلاحاً تحت عنوان «سرايا المقاومة»؟ كيف كان الحزب يختار المحظيّين من الذين تلقّوا التدريب؟ أيّ نوع من التدقيق في الملفّ الشخصي للأفراد كان معمولاً به؟ وماذا عن الحلفاء الذين تلقّوا تدريبات وسلاحاً ثم هجروا الحزب؟ ماذا عن هؤلاء؟ الحزب التقدمي الاشتراكي كان في مرحلةٍ مِن أوثق حلفاء الحزب (السرايا تأسّست في 1997).

هل هذا يعني أنّ بعض الذين تدرّبوا على يد الحزب خاضوا معارك ضدّه في ما بعد في 7 أيّار؟ هل أنّ السرايا كانت مؤسّسة صارمة ونزيهة وجدّية أم كانت ميليشياوية وفاسدة؟ هل أنّ التحقيقات التي يجريها الحزب ستتطرّق إلى وضع السرايا؟ لكن هل نلوم الحزب لو أنّ حلفاءه تخلَّوا عنه في الملمّات؟ هل انضمّ زعران إلى السرايا؟
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة