في قطاع غزة، حيث تعصف الحرب ويشتد الحصار، لم يعد الجوع مجرد كلمة تُقال، بل صار حقيقة يومية مريرة يعيشها سكان القطاع الذي يتعرض للإبادة منذ قرابة عامين على مرأى العالم بأسره.
هنا في تلك الرقعة الصغيرة على شاطئ البحر، يقف الأب والأم والأطفال أمام مأساة إنسانية لا تجد لها صدىً في العالم، حيث يغلق الجميع أبوابهم على معاناتهم، وتعمُّ صمت قاتل يغطي أصواتهم.
تتحدث تقارير مؤسسات الإغاثة الإنسانية عن أن أكثر من 90 بالمئة من سكان غزة يعانون من مستويات حادة من الجوع، وسوء التغذية.
وتراكمت معاناة الناس على مدار سنوات الحصار، لكنها اليوم وصلت إلى مستويات لم يعد من الممكن تجاهلها، حتى بات الناس يتساقطون في الشوارع من شدة الجوع.
مشاهد مؤلمة
في أزقة غزة، تنتشر مشاهد مؤلمة، أطفالٌ ينامون وهم جياع، وأمهات يبكين من الألم والعجز، وآباء يبيعون ما تبقى من ممتلكاتهم من أجل شراء رغيف خبز قد لا يكفي لسد جوع عائلاتهم، وهو مفقود ويساوي الدم، حيث تشهد مناطق تسليم المساعدات مجازر يومية بحق المجوعين كان آخرها مجزرة شمال غرب مدينة غزة ارتقى فيها 66 مواطناً.
ويقول المواطن محمود الحداد، وهو أب لثلاثة أطفال: “لا شيء يؤلم القلب أكثر من أن ترى أطفالك ينامون جياعًا ولا تستطيع أن تعطيهم سوى القليل من الطعام. نحاول أن نجبر أنفسنا على الصبر، لكن الجوع يكسر كل شيء”.
وتضيف السيدة فاطمة، إحدى الأمهات التي فقدت زوجها في الحرب الأخيرة: “كل يوم يمر دون طعام يكسر قلبي، أشعر بالعجز الشديد وأنا أرى أطفالي يبكون من الجوع، لم نعد نعرف إلى أين نلجأ”.
وفي غزة هناك من بات يعيش على وجبة واحدة في اليوم وأقل بكثير، وكثير من العوائل لم تأكل منذ أيام.
المستشفيات، التي كانت ملاذ المرضى والجرحى، تعاني بدورها من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، في ظل انقطاع الكهرباء المستمر، مما يجعل الحياة هناك أكثر هشاشة.
أما المدارس، فقد تحولت إلى ملاجئ مؤقتة للعائلات التي نزحت عن بيوتها، بينما تظل الحاجات الأساسية في الغذاء والدواء بعيدة عن متناول الكثيرين.
مجازر المساعدات
وسط كل ذلك تستمر قوات الاحتلال -حسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان- في تحويل كل محاولة للحصول على الطعام في قطاع غزة إلى مجزرة جماعية. كل نقطة توزيع وكل شاحنة مساعدات وكل سوق وتكية طعام، تحولها تلك القوات إلى ساحة قتل جماعية مفتوحة.
واستشهد أمس قرابة 100 مواطن وأصيب أكثر من 600 في مجازر الاحتلال ضد المجوعين طالبي المساعدات شمال غزة وشمال رفح.
وفي هذا الصدد، أفاد برنامج الغذاء العالمي، أن قافلة تابعة له مكونة من 25 شاحنة محملة بمساعدات غذائية حيوية عبرت نقطة زيكيم الحدودية متجهة إلى شمال غزة، وبعد وقت قصير من اجتياز نقطة التفتيش الإسرائيلية الأخيرة بعد معبر زيكيم إلى غزة، واجهت القافلة حشودًا كبيرة من المدنيين الذين كانوا ينتظرون بقلق للحصول على الإمدادات الغذائية التي يحتاجون إليها بشدة. ومع اقتراب القافلة، تعرض الحشد المحيط بها لإطلاق نار من الدبابات الإسرائيلية وقناصة ونيران أخرى الذي أسفر عن إزهاق أرواح، وإصابة أعداد كبيرة بجروح تُهدد حياتهم.
الصمت والخذلان
وما يزيد من فداحة الوضع – وفق الأهالي- هو صمت العالم، وخذلان العالم العربي والإسلامي الذي بات يفاقم معاناة غزة، وسط تحذيرات حقوقية بأن قطاع غزة دخل بالفعل في كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث يواجه الآلاف، وربما عشرات الآلاف من المدنيين، خطر الموت الوشيك جراء الجوع القاتل خلال الأيام القريبة المقبلة.
وبينما تتوالى التقارير عن الكوارث الإنسانية، ويدعو الناشطون والدول والمؤسسات إلى فتح المعابر وتوفير المساعدات، يبقى الصوت الدولي مترددًا أو متجاهلًا. لا تتحرك الضمائر، ولا تُرفع الأيادي، وكأن الجوع والدمار في غزة صار شيئًا عاديًا يجب تقبله.
ويقول الشاب يوسف: “نحن نصرخ بأعلى صوتنا، لكن لا أحد يسمعنا، العالم يشاهدنا يموتون جوعًا لكنه لا يتحرك. هذا الألم لا يحتمل”.
هذا الصمت العالمي يشبه الإغماض المتعمد عن مأساة إنسانية تستحق أن تُسمع، ويترك آلاف البشر فريسة للجوع والمرض والموت البطيء.
نداء غزة اليوم هو نداء لكل ضمير حي، لكل قلب ينبض بالرحمة والإنسانية. إنها تطلب أن يُرفع الحصار، أن تدخل المساعدات، وأن يوقف العالم صمته الطويل. غزة تريد أن تعيش، تريد أطفالها أن يضحكوا، وأن تجد العائلات فيها ما يسد جوعها، ويمنحها الأمل بالحياة.