آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [16]

212-r8uptr3caelyt8yion9keysxyto4yu9q3my084i8hc

أسعد أبو خليل

 

الطُّوفان والحزب

ماذا كان على السنوار أن يفعلَ وهو يرى الشعب العربي برمّته قد هجَر القضيّة الفلسطينيّة وأصبحت فضائيّات الترفيه والفتنة الطائفيّة والإلهاء الفكري طاغيةً على مكوّنات الوعي العربي العام؟ يئِسَ السنوار على الأرجح من إمكانيات حدوث ضغط شعبيّ عربيّ أو إسلاميّ من أجل القضيّة الفلسطينيّة. لم تعد القضيّة جاذبة للشباب العربيّ المفتون بنجوم الفنّ والرياضة، الذين باتوا في صُلب أجندة السياسة الخارجيّة السعودية من خلال هيئة ترفيه تركي الشيخ (ولا يُقصِّر الإعلام القطري والإماراتي في ضخّ مضمون الترفيه والإلهاء والحضور الدعائي الإسرائيلي). والذي جرى بعد «الطوفان» أثبت أنّ السنوار أصابَ في افتراض تكلّس الرأي العام العربيّ عن فلسطين.

لعلَّ السنوار، من خلال حركته أرادَ تحريك الوعي العربيّ أو «الشارع العربي» لإحداث ضغْط لصالح قضيّة فلسطين، وبخاصّة أنّ النُّخب العربيّة (الأكاديمية والفنيّة والإعلاميّة والرياضيّة) باتت في محور التطبيع الإبراهيمي. السنوار ثارَ ضدّ المكان وضدّ الزمان، ولكنّه أخطأ الحسبان في عدد من الأمور كما سيرِد أدناه. هو افترضَ أنّ الحدث الفلسطيني متى احتلّ الشاشات سيُحفّز الرأي العام على النزول إلى الشوارع التي باتت خالية إلّا من المارّة الخانعين والمطيعين ـــــــ باستثناء جنوب لبنان واليمن.

لكنّ حساب السنوار لم يكن سهلَ التبرير، وبخاصّة لو أخذنا المضاعفات والمجريات في الحسبان في النظر إلى الوراء:
أوّلاً، هل أجرى السنوار حسابات الربح والخسارة قبل اتّخاذ قراره؟ هل أخضعه للجنة من المختصّين والمستشارين؟ أم أنّ القرار كان – على طريقة الحُكّام وزعماء التنظيمات الفلسطينيّة – إفراديّاً وانفعاليّاً ومتفرّداً، لأنّ الزعيم يثق بحِكمته هو، ويكتفي بمشورته مع نفسه؟ ليس من دلائل على أنّ السنوار استشار مختصّين قبل «الطوفان». صحيح، هو كان حذراً جدّاً من الناحية الأمنيّة (وهذا مفهوم ومُبرّر) لكنّ قراراً كهذا كان يحتاج إلى مسار مِن المناقشات والمداولات والمناظرات. لا نعلم بالتحديد متى وكيف اتّخذ السنوار قراره لكنّه كان يحتاج إلى دراية وعناية أكثر بكثير.

ثانياً، ظلم السنوار حلفاءَه في المحور في قراره. كيف يمكن أن يستفرد بقراره الذي (كان عليه أن يعلم) سيؤثّر على كلّ أطراف المحور من دون استثناء، من اليمن إلى إيران. ولو أنّ السنوار أخضع قراره للنقاش مع أطراف المحور ودعا إلى التنسيق في ما بينهم، كان يمكن أن يكون الردّ على العدوان مُنظّماً ومُشتركاً وأفعل بكثير من ردّ قوات المقاومة المعزولة في غزّة. لكن، قد يكون السنوار غير واثق من النّظام الأمني في صفوف حلفائه.

وبما نعلمه اليوم عن حالة الاختراق الهائلة في صفوف الحزب (وفي جسم النظامَين البعثي السوري والإيراني)، فإنّ تسرُّب الخبر إلى الحزب في لبنان كان يمكن أن يُحبِط العمليّة من أساسها. لكنّ القرار لم يكن يحتمل التفرّد لِما سيجلبه من ردود فعل ومضاعفات إسرائيليّة وحشيّة. السنوار عليم بالشأن الإسرائيلي وهو يُجيد العبريّة وكان من المتوقّع أن يكون قادراً على توقّع نِسَب متعدّدة من الردود الوحشيّة للعدوّ. الحلفاء لو شاركوا معه كان يمكن أن يباغتوا العدوّ على غير جبهة، وليس هناك ما يمكن أن يُلحِق الهزيمة بالعدوّ أكثر من المباغتة التي كانت ديدن العدوّ العسكري مع العرب.

مشاركة حلفاء السنوار في المعركة أتت ضعيفةً لأنّ العدوّ تحضّر له على الفور وعبّأ صفوفه واستدعى دعْماً ومشاركةً عسكريّة واستخباراتيّة غربيّة لا سابقَ لها. ساعات فقط كانت كافية كي تتحضّر إسرائيل على كلّ الجبهات، وتتحضّر معها أميركا وباقي حلفاء إسرائيل في الغرب. فقد شنّ السنوار حربه هذه في ظرف بالغ الصعوبة بالنسبة إلى الحلفاء. الانتخابات الأميركية كانت على الأبواب، وعودة ترامب كانت محتملة إنْ لم تكن مُرجَّحة. فلماذا يشنّ السنوار الحرب وهو يعلم – أو كان عليه أن يعلم – أنّ بايدن وترامب سيرعيان الحرب الانتقامية الوحشيّة ولو استمرّت سنوات. الدعْم الأميركي لإسرائيل مطلق، وعلينا أن نصدّق أميركا عندما تقول ذلك على مدار الساعة.

وإيران كانت تعاني من وضع داخلي صعب بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية وتنامي جناحٍ شعبيّ (وحاكِم) كفرَ بربْط إيران بمحور المقاومة. والحزب كان ضحيّة حصار داخلي وخارجي من أعدائه، وأكثريّة الشّعب اللّبناني (رغم استطلاعات لا يُعوَّل عليها) غير متعاطفة بتاتاً مع المقاومة أو مع خيار السلاح ضدّ إسرائيل – حتى في حالة الدفاع عن النفس. والانهيار الاقتصادي في لبنان قد يكون فتح بيئة الجنوب أمام عمليّات استغلال مشبوهة لتجنيد عملاء لإسرائيل وحلفائها في العالم. والإعلام اللّبناني والعربي نجح في تقويض كلّ حُجج المقاومة في لبنان والخارج. وهذا النجاح لا علاقة له بالتمويل فقط بل بالفشل الذريع لإعلام المقاومة دعايتها.

أمّا العراق، فما كان يجب أن يُحسب على خانة المقاومة أصلاً. نوري المالكي كان يتلقّى التعليمات في جلسات أسبوعية عبر الفيديو من جورج دبليو بوش نفسه، ولكنّه بعد خروجه من الحُكم أصبح يُعدُّ مقاوماً – من أطراف محور المقاومة نفسها. العراق هو الحلقة الأضعف والأخطر في محور المقاومة، رغم وجود فصائل مُلتزمة بمشروع المقاومة. أكثرية الشيعة في العراق يتّبعون قيادة السيستاني (سياسيّاً ودينيّاً) وهو في تضادّ مع محور المقاومة. بعض القساوسة الغربيّين أصدروا مواقف أقوى من موقف السيستاني في حرب الإبادة (لكنّ موقف السيستاني كان أقوى طبعاً من مواقف رجال الدين ودور الإفتاء العرب).

السنوار خمّنَ أنّ الحلفاء سيثنونه عن عزمه وسيقنعونه بالتأجيل أو التريّث، ولهذا تفرّدَ بالقرار على الأرجح. حتى «حماس» في الخارج لم تكن متحضّرة، و«الطوفان» باغتها هي الأخرى، كما باغت العدوّ. لكن السنوار، وبالنيابة عن أهل غزة، لم يكن يحتمل الحصار الخانق وأراد تنشّقَ الهواء الطلْق وكسْر الحدود المصطنعة التي يفرضها المحتل. «الطوفان» كان يمكن أن يكون أكثر فعالية (بالنسبة إلى ما أرادته «حماس») لو كان مشتركاً مع الحلفاء وأكثر تنظيماً.

حساب السنوار لم يكن سهلَ التبرير، وبخاصّة لو أخذنا المضاعفات والمجريات في الحسبان في النظر إلى الوراء

جرت تجاوزات في «الطوفان» باعتراف «حماس» في الوثيقة التي أصدرتها الحركة عنه لأنّ أطرافاً ومجموعات غير تابعة لها تسرّبت عبر الحدود وشاركت على طريقتها بالعمليّة. الأطراف الأخرى في المحور كانت قد أصرّت على انضباط عُرف به الحزب والحركة والحليف الإيراني (لم تُسجَّل أيّ حادثة اعتداء جنسي من قِبل هؤلاء، على عكس سلوك الجيش السوري البعثي).

ثالثاً، ماذا كان السنوار يتوقّع من العمليّة؟ هل كان يظنّ أنّ إسرائيل ستلتزم باللّاعنف وستكتفي بمفاوضات طويلة وشاقّة؟ ألم يُثبت العدوّ أنّه مستعدٌّ أن يقتل إسرائيليّين سجناء لتثبيت عقيدته العسكريّة؟ الوحشيّة الإسرائيليّة الفائقة كانت منسجِمة مع سلوك العدوّ عندما يريد أن يسترجع قوّته الردعيّة، بخاصة أنّ غزّة كانت عنواناً لقدرة العدوّ على الحصار والتجويع والظلم.

والسنوار أخطأ لو كان ظنّ أنّ أميركا لن تسمح لحليفتها بشنّ حرب لا نهايةَ أو أفقَ لها. وحجم العمليّة والعدد الكبير من السجناء حتّمَ -حسب تاريخ العدوّ وعقيدته العسكريّة- ردّاً من نوع آخر، ردّاً لم يسبق أن شنّته إسرائيل من قبل. تعتمد إسرائيل وفق عقيدة المؤسّس بن غوريون على إخضاع العرب وفرض الانهزام والشعور بالعجز نحوها.

رابعاً، شنّ السنوار عمليّته في مرحلة انقسام فلسطيني خطير. حركة «فتح» لم تصبح فقط ذراعاً للاحتلال بل إنّ حُكمها في الضفة بات سهلاً. الرأي العام الفلسطيني يشبه الرأي العام في بيروت، وافتتاح «مول» تجاري في عزّ حرب الإبادة في رام الله لقيَ الكثير من الترحاب والاحتفاليّة من قِبل الشعب الفلسطيني. تعبوا من الرقص والضحك في يوم الافتتاح. ولم تشهد قوّات الأمن الفلسطينيّة حالات من الانقسام والتمرّد على مرور أشهر حرب الإبادة. استطاع محمود عبّاس ورُعاته في واشنطن وتل أبيب فرْض حُكمٍ مطيع.

ومنظّمات الـ«إن.جي.أوز» الغربيّة التمويل صنعت ثقافة سياسيّة جديدة – ثقافة لم يشهدها المجتمع الفلسطيني من قبل. أصبح محمد بن راشد قائدَهم وحُلمَهم، وتناسَوا رموز الثورة الفلسطينيّة. السنوار لم يكن يعمل في بيئة مُسانِدة لأنّ كلّ مناصري «فتح» أقرب إلى إسرائيل من حركات المقاومة العربيّة. والنجاح الأمني الذي حقّقه السنوار في غزّة لم يكن كاملاً: لأنّ مناصري «فتح» جواسيس وعملاء للاحتلال ومستعدون أن يشوا بأفراد المقاومة.

أليست هذه هي المهمّة الموكولة إلى حركة «فتح»؟ طبعاً، ليست هذه دعوة باتت ممجوجة يُصدرها المثقّفون الفلسطينيّون بين الفَينة والأخرى للدعوة إلى «الوحدة الفلسطينيّة» تحت سلطة «السيّد الرئيس محمود عباس». على العكس، إنّ الانقسام الفلسطيني طبيعيّ ومنطقيّ لأنّه يفصل بين المقاومين والعملاء.

جبهة التحرير الجزائريّة لم تكن تُصدر دعوات للوحدة الجزائريّة مع عملاء الاحتلال الفرنسي. لكنّ الساحة الفلسطينيّة لم تكن مؤاتية لهذه العمليّة، والدليل على ذلك أنّ الضفّة والمخيّمات في الشتات تصرّفت مع «الطوفان» على أنّها غير معنيّة به. ولا مظاهرة جرت في لبنان في المخيّمات لنصرة أهل غزة، والصراعات بين عصابات السلطة في المخيمات وبين خصومهم تشغل المخيمات أكثر مِن حرب الإبادة الجارية.

خامساً، لم تكن غزّة مُعدّة لحرب طويلة. ولم تكن «حماس» والمقاومة في وارد صدّ اجتياح وحشي للقطاع. كان التخطيط (بناء على ما نرى من بُعد) أنّ «الطوفان» سيمنح الحركة ورقة تفاوضيّة قويّة وأنّ صفقة ستُفرض على إسرائيل وتعود الأمور إلى ما كانت عليه في غزّة. لكنّ دراسة المسار الصهيوني (العسكري والسياسي) يُنبئ أنّ إسرائيل لا تعتمد على عقيدة جامدة أو سلوك يمكن توقّعه في الردّ على عمل ما من قِبل العرب.

إنّ تفوّق إسرائيل لا يعتمد فقط على القدرات العسكرية الممنوحة لها من قِبل معسكر الإبادة الغربي، بل يعتمد أيضاً على الصدمة والمفاجأة وخرْق الاتّفاقيات والعهود والمواثيق والتفاهمات. إنّ التعامل مع إسرائيل بناء على عقليّة الالتزام بالاتّفاق معها يمنحها رصيدَ قوّة أكيداً لعِلْمها أنّ عدوّها يلتزم بالاتفاقيات فيما هي تقبل بالاتّفاقيات إذا كانت في صالحها وفقط في مدة زمنيّة ترتئيها هي.

ليس تقييم الربح والخسارة سهلاً بالنسبة إلى رجل حارب عدوّه حتى النَفَس الأخير وعاش وقاتل مع رجاله. لم يكن مثل زهير محسن قائد منظمة «الصاعقة» الذي اغتيل على الشاطئ اللّازوردي الفرنسي. لكنّ تاريخ القضيّة الفلسطينيّة سيراجع «طوفان الأقصى» وسيحكم عليه بالنسبة إلى الضّرر أو الفائدة للقضيّة الفلسطينية. طبعاً، من منظور «حماس» فإنّ زمن التقييم والمحاسبة لم يأتِ بعد. لكنّ الانتظار يؤخّر عمليّة استخلاص العِبر والدروس.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة