جمال كنج ..
منذ بدء سريان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر 2025، أثبتت دولة الاحتلال مجددًا أن لإفلاتها من العقاب حدودًا لا تُعرف. ففي أقل من عشرين يومًا على توقيع الاتفاق، قتلت 226 فلسطينيًا وأصابت 594 آخرين، فيما واصلت تدمير المنازل في المناطق التي ما زالت تحت سيطرتها. وخلال هذه الفترة القصيرة، خرقت الهدنة أكثر من 125 مرة دون أي مساءلة.
في الثامن والعشرين من أكتوبر، شنّت الطائرات الحربية التابعة لدولة الاحتلال غاراتٍ على مدينتَي غزة وخان يونس، أسفرت عن استشهاد 109 أشخاص، بينهم 46 طفلًا و20 امرأة. وبرّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المجزرة بقوله: “ينبغي عليهم أن يردّوا الضربة.”
وفي إحدى الغارات، سُوّيت بنايات سكنية كاملة بالأرض في وسط غزة، وأُبيدت عائلة مؤلفة من 18 فردًا — أطفالًا وآباءً وأجدادًا. ومع ذلك، قلّل نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس من شأن الهجمات، واصفًا إياها بأنها “اشتباكات صغيرة”، مؤكّدًا أن “الهدنة لا تزال قائمة”. أما المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فاعتبر مقتل أكثر من مئة فلسطيني “عملية محدودة وموجهة”.
بالنسبة لواشنطن، يبدو وقف إطلاق النار صامدًا طالما أن الضحايا فلسطينيون والمقاومة لا تردّ
لكن ماذا لو ردّ الفلسطينيون بالمثل؟ هل كانت واشنطن ستصف ذلك أيضًا بأنه “محدود”؟ أم أن حياة الفلسطينيين لا وزن لها في ميزان الإدارات الأمريكية؟
أما الوسطاء العرب — مصر وقطر وتركيا — فلم يبدوا موقفًا منفصلا. فقد تفاخر رئيس الوزراء القطري بأن “الطرفين ما زالا ملتزمين بالهدنة”، وكأن استعراض الالتزام أهم من دماء 226 فلسطينيًا أُريقت خلال ثلاثة أسابيع. وما هي إلا سويعات بعد ذلك التصريح حتى قصفت دولة الاحتلال بلدة بيت لاهيا شمال غزة، فقتلت مدنيين اثنين على الأقل.
منذ اليوم الأول، تجاهلت دولة الاحتلال البنود الأساسية في الاتفاق. فقد نصّ البند السابع على “إرسال المساعدات الإنسانية الكاملة فورًا إلى قطاع غزة” بمعدل لا يقل عن 600 شاحنة يوميًا، وهو المستوى المعتمد في 19 يناير 2025. إلا أن منظمات حقوق الإنسان الدولية أكدت أن دولة الاحتلال رفضت، خلال الأسبوعين الأولين بعد الهدنة، 99 طلبًا لإدخال المساعدات. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن متوسط عدد الشاحنات التي سُمح بدخولها لم يتجاوز 145 شاحنة يوميًا — أي 24% من الحد المتفق عليه.
ولم تكتفِ بذلك، بل منعت وكالة الأونروا — أكبر جهة إنسانية أممية في غزة — من إيصال المأوى والغذاء لأكثر من 1.3 مليون إنسان، في انتهاك صريح لقرار محكمة العدل الدولية الذي طالبت دوله الاحتلال بالسماح للوكالة بالعمل بحرية.
وليس هذا السلوك جديدًا. ففي جنوب لبنان، نصّ اتفاق وقف إطلاق النار على انسحاب دولة الاحتلال من الأراضي اللبنانية بحلول 26 يناير 2025، لكنها بعد عشرة أشهر لا تزال تحتل مواقع داخل لبنان وتشنّ غارات يومية. وكما في غزة، تلتزم الولايات المتحدة وفرنسا — راعيتا الاتفاق — صمتًا مطبقًا حيال تلك الانتهاكات، بينما تسارعان إلى “التنديد” إذا ما ردّت المقاومة اللبنانية على العدوان.
إنها السياسة ذاتها التي دأبت عليها دولة الاحتلال: تأخذ من الاتفاقات ما يخدمها وتتجاهل ما يقيّدها. فكل ما أرادته من الهدنة هو استعادة أسراها، وبعد أن تحقق لها ذلك، أطلقت يدها لتفعل في غزة ما تشاء. لقد تحولت الهدنة إلى واجهة زائفة لإدارة نظام تجويعٍ ممنهج ضد أكثر من مليوني إنسان.
وبتقليل حجم الجرائم الصهيونية ووصفها بأنها “اشتباكات صغيرة”، حوّلت واشنطن وحلفاؤها العرب الهدنة إلى غطاء لحرب مفتوحة. فصمت إدارة ترامب وتواطؤ الوسطاء العرب ليس حيادًا، بل تمكين مباشر لعدوان دولة الاحتلال. وهذه ليست ازدواجية معايير، بل سياسة وممنهجة.
تسعى دولة الاحتلال إلى ترسيخ “واقع جديد” عبر اتفاقات هدنةٍ زائفة تُكرّس الاحتلال وتُحوّل القصف اليومي إلى أمر مألوف. وهذا هو “الواقع الجديد” الذي اعتادت فيه على التعدي داخل الأراضي السورية وشنّ الهجمات على لبنان، وها هي اليوم تفعل الشيء نفسه في غزة بلا رادع. وفي هذا السياق، تتحول الهدن إلى أدوات خادعة لتثبيت الاحتلال وتطبيع العدوان.
وطالما استمرت واشنطن ومحمياتها العربية في تبرير جرائم دولة الاحتلال ووصفها بـ“الاشتباكات الصغيرة”، وطالما بقيت حياة الفلسطينيين رخيصة في نظامٍ لا وجود فيه لوقف إطلاق النار إلا في بياناتٍ تُصاغ لتجميل صورة ترامب، وحيث يستطيع طرف واحد أن ينتهك الاتفاق بلا محاسبة، فإن “وقف إطلاق النار” يصبح غطاءً لتقنين حربٍ دائمة من طرف واحد.
وهكذا يفضح ما يُسمّى بـ“سلام ترامب” على حقيقته: صفقة سياسية فاسدة تمنح دولة الاحتلال تفويضًا مطلقًا لتكريس الاحتلال، وتجويع الفلسطينيين، وارتكاب المجازر دون رادع أو عقاب.
*كاتب فلسطيني مقيم في أميركا