أسعد أبو خليل
حرب الإسناد واغتيال نصرالله
يندرج اغتيال الشهيد السيد حسن نصرالله تحت بند الجرائم التي ترتكبها إسرائيل باستمرار ضدّ كلّ من يقود أو يُسهم في العمل المقاوم ضدّ الاحتلال. لنتذكّر ونسجِّل: إسرائيل هي أكثر دولة ارتكبت اغتيالات منذ الحرب العالميّة الثانية (التقدير هو أكثر من 2700 عمليّة اغتيال، هذا غير الاغتيالات التي ارتكبتها ضدّ أشخاص لا علاقة لهم بالمقاومة، لكنّ الأسماء أو القامة تشابهت).
اغتالت إسرائيل أكثر ممّا اغتالت كلُّ دول الغرب مجتمعةً. نتوقّع من إسرائيل عمليات الاغتيال لأنّ استسهال قتْل العرب (مدنيّين ومسؤولين) جزء من العقيدة العنصريّة التي وجّهت سياسات الحركة الصهيونيّة وممارساتها قبل إنشاء الدولة، منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، عندما دشّنت عصابات الصهاينة الإرهاب في منطقتنا.
وعندما تقيّم سجلّ نصرالله ضدّ إسرائيل تتعجّب أنّه بقي على قيد الحياة كلّ هذه السنوات. السبب الوحيد هو أنّ حجمَه كَبُرَ إلى درجة أنّ أميركا كانت تخشى من مضاعفات قتْله. وقوّة تنظيمه وبأسه أخافت أميركا على مصالحها لو هو تعرّض للاغتيال، ولو مِن قِبل حليفتها إسرائيل.
وتحدّثتُ من قبل هنا (في مقالة سابقة) من حديث جرى بيني وبين أدميرال بوبي إنمان (الذي عمل نائباً لمدير المخابرات الأميركيّة وكان مرشّحاً لمنصب مدير المخابرات في عهد بيل كلينتون لكنّ اللّوبي الصهيوني عطّلَ الترشيح): كيفَ أنّه اقتربَ منّي بعد محاضرة ألقيتُها في كليّة الحقوق في جامعة تكساس وعلّق على جوابي عن سؤال حولَ دور نصرالله في المنطقة وقال لي هامساً: إنّ إسرائيل لن تجرؤ أبداً على اغتياله لسبب بسيط. لأنّنا أبلغناها بصريح العبارة أنّه ممنوع عليها اغتياله. كان هذا قبل أكثر من خمس عشرة سنة.
لكن إذا كانت أميركا قد منعت اغتياله خوفاً من العواقب والمضاعفات فلماذا سمحت باغتياله بعد كلّ هذه السنوات؟ ماذا تغيّرَ في حسابات أميركا كي تعيد النظر في موقفها؟ ولماذا رأت، وعن حقّ، أن كلفةَ اغتيال نصرالله لن تكون باهظة بالنسبة إلى مصالحها في الشرق الأوسط؟
نستطيع أن نقول إنّ جو بايدن كان رئيساً مختلفاً عن أسلافه. وإنّه كان أوّلَ رئيس جاهرَ باعتناقه الصهيونية. وهو الرئيس الذي باركَ ورعى حرب الإبادة. جورج دبليو بوش، وكان صهيونياً متشدّداً ويمينيّاً متطرّفاً، أمرَ إسرائيل بوقْف الحرب على لبنان في 2006 وقال لهم: سمحتُ لكم بثلاثة وثلاثين يوماً ولم تستطيعوا أن تحقّقوا أهدافكم وفشلتم ضدّ حزب الله رغم إعلاناتكم. عليكم بوقْف الحرب. وهكذا كان.
أمّا مع بايدن، فقد اختلف الأمر. كان قد سمحَ باستمرار حرب الإبادة إلى اليوم. أطلقَ العنان لنتنياهو وكان يرضخ له. هذا كان العامل الأوّل في السماح الأميركي (إنْ لم تكن المشاركة الأميركيّة) باغتيال نصرالله. لكنّ العامل الأكثر تأثيراً كمنَ في سلسلة الاغتيالات التي طالت مسؤولين في الحزب وفي إيران والتي كان الردّ عليها ضعيفاً، بالمنظور الإسرائيلي والأميركي. غضَّ الحزب وغضّت إيران، عمليّاً، النظرَ عن سلسلة من الاغتيالات، وبخاصّة اغتيال عماد مغنيّة وقاسم سليماني.
عندما أتى الردّ ضعيفاً جدّاً (في الحسبان الأميركي مع تحذير إيراني غير مباشر لتحاشي قتْل أميركيّين في الردّ على مقتل سليماني) أدركت إسرائيل (وأدركت أميركا معها) أنّ المحور في حالة من الضعف والتردّد وأنّه لن يردُّ بقوّة على أيّ عمل عدواني يستهدفه. أي إنّ تعامل الحزب مع اغتيال مغنيّة فتحَ الطريق على اغتيال نصرالله، كما إنّ تعامل إيران مع اغتيال سليماني فتح الطريق على اغتيال نصرالله وعلى عمليّات اغتيال متعدّدة في داخل إيران.
في العلاقات الدوليّة، الثأرُ من شِيَم الحرص على السيادة الوطنيّة. الموضوع (التردّد والإحجام في المحور) يتعلّق على الأرجح بالحسابات الداخليّة في إيران، كما إنّه يتعلّق بحسابات الحزب الداخليّة، حيث وجد نفسه عبر السنوات بلا حليف إلّا الحليف الشيعي. أيدي الحزب كانت مقيّدة في لبنان بحُكم فشله في التعامل السياسي الداخلي ورعاية النظام الفاسد، مضافاً إلى كمّ الضغوطات التي انهالت عليه من دول الغرب والخليج معاً.
لكنّ السبب الأكبر هو امتناع الحزب أو إيران عن الردّ على سلسلة من الاغتيالات الإسرائيليّة (والأميركيّة في حالة مغنيّة). استطاع نتنياهو أن يُقنع الإدارة الأميركيّة أنّ الحزب لن يقوى على الردّ وأنّ إيران ليست في وارد الردّ هي الأخرى. وإسرائيل قرّرت أن تغتال نصرالله عندما أنهكت الحزب وأثخنته الجراح بعد تفجيرات الـ«بيجر» وعمليّات قصْف واستهدافات لقياديّين وكوادر في الحزب. أصبح الحزب مكشوفاً أمام العدوّ وأمام حلفاء العدوّ الغربيّين (والمُنتشرين بقوّة في منطقة الشرق الأوسط بعد عمليّة 7 أكتوبر والمُشاركين في أعمال إسرائيل الحربيّة والأمنيّة).
إسرائيل ركّزت على ضرورة التخلّص من نصرالله. ونتانياهو كان على حقّ عندما أعلنَ أنّ نصرالله كان الشخص الأكثرَ تأثيراً في المحور برمّته
سلوك المحور في السنوات الماضية وسّع حريّة حركة الإرهاب الإسرائيلي، لكنْ بطريقة غير مباشرة طبعاً. إسرائيل ركّزت على ضرورة التخلّص من نصرالله. ونتنياهو كان على حقّ عندما أعلنَ أنّ نصرالله كان الشخص الأكثرَ تأثيراً في المحور برمّته. لم يكن نصرالله تابعاً، وأصبحت شخصيّته أكبرَ من أيّ قائد آخر في المحور.
وعليه، فإنّ الحرص عليه من باب مركزيّته في المحور ونجاحه وفعاليّته كان يجب أن يكون الأمر الأكثر أهميّة وأولويّة في أجندة الحزب وإيران معاً.
هذا لا يعني أنّ الحزب وإيران تقصّدا إهمال أمن نصرالله. طبعاً لا. لكن: ليس من المبالغة القول إنّ عدم الردّ على سلسلة الاغتيالات التي جرت في سوريا كشفت نصرالله أمام العدوّ لأنّها أعلمت العدوّ بقلّة كلفة الاغتيالات حتى لو طالت القائد الثاني في المحور بعد نصرالله، أي قاسم سليماني. كلّما تمنّعَ الحزب وإيران عن الردّ، ازدادت شهيّة العدوّ لارتكاب المزيد.
وهناك خطّ بيان الاغتيالات في سوريا: بعد اغتيال عماد مغنيّة، استخلصت أميركا وإسرائيل أنّ الحزب لم يعد عازماً على الاقتصاص القاسي كما كان في الماضي.
هنا، لا يمكن الجزْم بطبيعة ديناميكيّة العلاقة في صنْع القرار وتقرير الردّ بين الحزب وإيران. هل أنّ الوضع الداخلي الإيراني الذي لم يكن في صالح الحرس الثوري وأجندة المقاومة (كما ثبت في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة والتي هُزم فيها مرشّح الحرس الثوري) هو الذي ضغط على الحزب وعلى المرشد للتحفّظ في الردّ العسكري على عدوان إسرائيل وأميركا ضدّ المحور، أم أنّ الوضع الاقتصادي الداخلي زعزع أسس النظام واستقراره ولجم حركته؟
قرار التحفّظ والتمنّع في المراجعة الورائيّة، كلّف المحور أكثر بكثير ممّا كان الردّ الأقسى سيكلّفه. لو أنّ إسرائيل عانت، ولو قليلاً، من قرار اغتيال عماد مغنيّة وسلسلة الاغتيالات الأخرى في سوريا لَمَا تجرّأت على حملة الاغتيالات العشوائيّة بالجملة من خلال تفجيرات الـ «بيجر».
إنّ تفجيرات الأرجنتين الضخمة في 1992 و1994 كانت ردّاً مباشراً على اغتيال الأمين العام السابق السيد عبّاس الموسوي. أريد إفهام العدوّ أنّه سيكون له كلفة عالية لو أراد قتْل قادة الحزب باستسهال. الردّ كبّلَ العدوّ في ردوده، كما إنّ مغنيّة اشتُهر بمهارته في الإدارة الأمنيّة والحفاظ على السريّة وحماية القادة.
أي إنّ تفجيرات الأرجنتين كانت رسالة مزدوجة: الثانية منها كانت بهدف حماية القائد الحالي للحزب آنذاك. هذا التقدير مِن قِبل الحكومة الأميركيّة (من أنّ قرار اغتيال نصرالله سيكون مكلفاً جدّاً لإسرائيل ولأميركا ومصالحها في المنطقة) ضغطَ على إسرائيل وحدَّ من قدرتها على اغتيال نصرالله. أمّا الاغتيالات الكثيرة التي جرت والتفجير العشوائي للـ «بيجر»، فإنّها تُظهر دولة مرتاحة تماماً.
حتى اغتيال قادة الرضوان (أي أهم القادة العسكريّين للحزب) مرَّ مع ردود جدّ محدودة، بخاصّة أنّ الحزب كان مُثخناً بالجراح من جراء الضربات المتعدّدة التي أصابته منذ تدشين حرب الإسناد.
لكنْ، هناك جانب قرار الاغتيالات من قبل إسرائيل، وهناك أيضاً جانب الأخطاء الأمنيّة الكثيرة التي سهّلت مهمّة العدوّ في استهداف قادة الحزب. هناك أسئلة كثيرة من دون أجوبة حتّى الساعة والحديث عنها والخوض فيها لا يلقيان تشجيعاً مِن قِبل الحزب. كيف اتُّخذ قرار تجميع كلّ قادة الرضوان في مكان واحد مثلاً، ومَنِ اتّخذ القرار ولماذا؟ هؤلاء مثّلوا النخبة العسكريّة للحزب.
عندما اكتشفوا (أو عندما اكتشف واحد منهم) أنّهم مجتمعون كلّهم في مكان واحد تحت سقف واحد مع قائدهم، لماذا لم يبادر واحد منهم للصراخ: اخرجوا من هذا المكان؟ هذا الاجتماع في حدّ ذاته سيُتيح فرصة للعدوّ. طبعاً، هناك قرارات يتحمّل مسؤوليّتها من لم يبقَ على قَيد الحياة حيث المحاسبة تصبح صعبة أو مستحيلة مع أنّ المراجعة وحتى المحاسبة تكون في صالح أمن الحزب.
ولعلّ هذا ما عناه محمد رعد في تلك المقالة في «الأخبار» عندما كتب عن اختلاف في الآراء في تقييم دور القائد العسكري للحزب، أو غيره من القادة. في 1973، اكتشف وديع حداد في اجتماع لقادة الجبهة الشعبيّة أن واحدهم علمَ بسفر جورج حبش في ذلك اليوم مِن زوجته.
هال الأمر وديع حدّاد وأمر جورج حبش بالامتناع عن ركوب الطائرة في تلك الرحلة. وبالفعل خطفت إسرائيل تلك الطائرة ظنّاً منها أنّ حبش على متنها.
يومها، قدمت الحكومة اللّبنانيّة احتجاجاً عن خرْق سيادتها إلى مجلس الأمن آنذاك وكانت تطالب بفرْض عقوبات اقتصاديّة ضدّ إسرائيل من جرائها ولكنّ الحكومة الأميركيّة الراعية، دوماً وأبداً، أقنعت الحكومة اللّبنانيّة بتخفيض اللّهجة والمطالبة فقط بالإدانة اللّفظيّة من دون مطالبة بعقوبات لأنّ ذلك سيؤدّي إلى فيتو أميركي. الحكومة اللّبنانيّة -كما تلك الجاثمة اليوم- امتثلت وأطاعت أمر أميركا. الحكومة اللّبنانيّة اليوم لا تجرؤ على التقّدم بشكوى لمجلس الأمن ضدّ إسرائيل لأنّها تصف عدوان إسرائيل بصفاقة بـ «الفرصة».
هؤلاء القادة نذروا حياتهم من أجل لبنان ومن أجل فلسطين، وهؤلاء وافقوا على مشروع نصرالله في التصدّي الفعال ضدّ عدوان إسرائيل واحتلالها. هؤلاء مسؤولون عن خلْق حالة ردْع لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. لكنْ هل أنّ عشق الشهادة يزيد كثيراً من منسوب الشجاعة الجسديّة لكنّه قد يؤدّي أحياناً إلى الاستهتار أو التهوّر؟
كان نصرالله واضحاً في أنّ التعلّق بالحياة وليس عشْق الموت هو الدافع لمقاومة إسرائيل. لكن هل أنّ ذلك كان مفهوماً من الجميع؟ هل أنّ حُبّ الشهادة أضعف من الاحتراز، خصوصاً بعد اغتيال نصرالله مثلاً؟ هذه أسئلة لا تسهُل الإجابة عنها وتحتاج إلى عِلْم الغيب وإلى إجراء مقابلات مع قادة وكوادر لا يتحدّثون إلّا في تحقيقات حزبيّة داخليّة.
لكنّ هذا ما لن نعلم عنه إلّا بقدر ما يُفصح الحزب عنه، لأنّ ذلك مُطمئِن ليس فقط لأعضاء الحزب، وإنّما للجمهور العريض للمقاومة في لبنان وخارجه.
(يتبع)