أسعد أبو خليل
حرب الإسناد: اغتيال نصرالله
كان مسارُ هذه الحرب سيكونُ مختلفاً لو أنّ عماد مغنيّة بقي على قَيد الحياة، ولو أنّ إيران تعاملت بصورة مختلفة كليّاً مع اغتيال قاسم سليماني. إيران كانت تريد تجنّب المواجهة مع أميركا وإسرائيل بأيّ طريقة وبأيّ ثمن، حتى إنّها سكتت على ما يمكن عدّه اغتيالاً إسرائيليّاً أكيداً للرئيس الإيراني، رئيسي وصحبه. إيران، من دون أن تدري وبسبب سياسة الصبر الإستراتيجي، فتحت شهيّة إسرائيل على شنّ حرب ضدّها وضدّ حلفائها، بسكوتها عن الضربات المتوالية التي تلقّتها، والتي تضمّنت عمليّات إرهابيّة متنوّعة داخل إيران: تفجيرات واغتيالات وقلاقل بتدبير من إسرائيل (وبتنسيق سعودي إماراتي على الأرجح).
ظنّت إيران أنّ طلب السكينة سيؤثّر في سلوك العدوّ ويخفّف من عدوانيّته فيما هو زاد شبقه الوحشي. لم تعُد أميركا في موقع النُّصح لإسرائيل بالتروّي، لأنّها وجدت عبر السنوات الماضية أنّ إيران لم تعد تثأثّر، أو لم تعد تكترث للردّ الفعّال، على العدوان عليها. وإيران هي التي لجمت الحزب عبر السنوات على الأرجح، مع أنّ للحزب أسباباً خاصّة به تدعوه للتروّي والاستنكاف. الوضع الداخلي اللّبناني كان شديد الضغط على الحزب وهو زاد الضغط على نفسه عندما ارتضى، لا بل تطوّع، لأداء دور الراعي الأساسي للنظام الفاسد، ما سهّل تهمة تحميله مسؤوليّة السقوط الاقتصادي الهائل.
وسلوك إيران في «تصفير المشكلات» (لو أردنا التحدّث بلغة زوّار برامج الأحد السياسيّة على شاشات لبنان) عادَ عليها بالكثير من المشكلات والوبال. ذهبت بعيداً في سياسة مهادَنة السعوديّة وظنّت أنّ السعوديّة ستبادلها بحسن النيّة والودّ، فيما الأخيرة زادت من منسوب تآمرها ضدّ إيران.
كانت إيران تدعو في حمأة الحرب إلى ضرورة التحالف مع السعوديّة لمواجهة إسرائيل، فيما كانت الصحافة الغربيّة تتحدّث عن دور الإعلام السعودي في الإسهام في المجهود الحربي الإسرائيلي. ألا يقرأ مسؤولو إيران الصحافة السعوديّة؟ وإعلام «إيران إنترناسيونال» المتحالف مع ابن الشاه الصهيوني هو ممَوَّل من قبل السعوديّة نفسها. الإعلام الإيراني سكت عن تآمر النظام السعودي، فيما واظب الإعلام السعودي على استهداف إيران بصورة يوميّة. تذاكى النظام الإيراني كثيراً عندما ظنَّ أنّه يستطيع تحييد السعودية وإبعادها عن إسرائيل.
لو أنّ عماد مغنيّة بقي على قيد الحياة لأمرَ بتغيير كلّ نمط حماية نصرالله منذ اغتيال سليماني. الذي لا يتورّع عن اغتيال سليماني سيخطّط حتماً للّحظة التي سينقضّ فيها لاغتيال نصرالله. ومغنيّة كان الوحيد الذي يستطيع أن يفرض ترتيبات أمنيّة على نصرالله، ولو خالفت مشيئته أو مزاجه. كان يمكن له أن يمنع عنه الاتّصالات الهاتفيّة، السلكيّة واللّاسلكيّة، بمجرّد بدء حرب الإسناد وبمجرّد افتضاح تعقّب إسرائيل للمقاتلين والكوادر في الجنوب عبر الهواتف المحمولة وأرقام السيّارات البيومتريّة وكاميرات المراقبة المنتشرة.
لا يبدو أنّ الفريق الأمني المولج بحماية نصرالله كان «يمون» على نصرالله لجعْله يلتزم التزاماً صارماً بالتدابير الأمنيّة الاحترازيّة في حقْبة الخطر الأكبر. كيف بقي في الضاحية ولماذا؟ والأماكن المحصّنة هي المفضوحة لأنّ إسرائيل أظهرت اختراقها للتحصينات والمخابئ بسرعة. الأماكن الثابتة هي علامات هدف معروضة للعدوّ. الأماكن الجديدة تبقى في منأى عنه وبخاصّة إذا ابتعدت عن الضاحية الجنوبيّة. وسمعتُ أنّ الفريق الأمني المولَج بحماية المُرشد في إيران أجبره على ترْك المكتب المحصّن الذي كان يقيم فيه وينتقل إلى مكان جديد، وأنّ الانتقال ربّما أنقذ حياته خلال الحرب.
شخص نصرالله ليس كغيره في تاريخ الحزب، أو تاريخ الأحزاب. هناك قادة أحزاب يصبحون أكبر من أحزابهم وحركاتهم وتنظيماتهم. هو أصبح شخصيّة عربيّة وإسلاميّة قبل الحرب في سوريا. الحرب في سوريا (عن حقّ أو عن خطأ، لا فرق) غيّرت صورته وقوّضت زعامته، والحزب ما عرفَ أن يتعامل مع حمْلة التحريض المذهبي والطائفي التي استهدفته. وخطابه في التدخّل في سوريا والتدخّل في لبنان بعد سقوط النظام أمعن في إسباغ الصفة الطائفيّة المذهبيّة عليه، وبخاصّة بعد أن ترك الحليف الماروني الأمين، التيار الوطني الحرّ، يهجره.
قد يكون هذا الخطأ من أكبر أخطاء التنظيم، والأيام تُثبت ذلك. حتى الساعة، ورغم أصوات انعزاليّة فيه، فإنّ التيار بقيادة باسيل لم يتآمر ولم ينطق بخطاب المصالحة مع إسرائيل على طريقة أنصار الحزب وحلفائه من السنّة، بمن فيهم فيصل كرامي (من يصدّق أنّ المخزومي قبل 2019 كان من الحلفاء المحظيّين عند الحزب؟).
لم تكن شخصيّة نصرالله رصيداً ومُعيناً لحزبه فقط، بل كانت محوريّة في التحالف الإقليمي الذي تتصدّره إيران. وكيف أنّ إيران لم تجعل من حماية نصرالله أولويّة من أولويّاتها وبخاصّة أنّها كانت تتجنّب الحرب؟ كان يمكن أن تحافظ بالطرائق شتّى على حياة نصرالله، وبخاصّة بعد اغتيال سليماني، وبعد اغتيال رئيسي أيضاً (لا تزال إيران تخشى من الاعتراف بأنّ رئيسي قضى اغتيالاً، مع أنّ الاختراق الإسرائيلي في إيران ليس خافياً على أحد، وهناك شبكات فُكّكت بعد الحرب الأميركيّة ــ الإسرائيليّة). كان يمكن لإيران أن ترسل وفداً خاصّاً لتولّي حماية الأمين العام أو لاصطحابه خارج لبنان. كان يمكن لها أن تدبّر له إقامة في إيران أو في دولة أخرى. ولو أنّ نصرالله كان على الأرجح سيرفض مغادرة لبنان كي يكون -كما كان دائماً- قريباً من حزبه ومن شعبه، فإنّ مهمتها كان يمكن أن تتركّز على محاولة إقناعه عبر رسالة خاصّة من المرشد.
التحدّي لا يزال قائماً: هل أنّ الحزب الذي شيّده ودعمه ونظّمه نصرالله سيستمر في الوجود بعده، أم أنّ غياب الشخصيّة الكبيرة ستُضعضع كيانه بعد الضربات الهائلة التي تعرّض لها؟
أهميّة نصرالله أنّ شخصيّته أصبحت مقرونة بالحزب، وهذا ليس في مصلحة الحزب. هناك شخصيّات عربيّة كبيرة النفوذ والتأثير عانت بعد وفاتها من غياب حضورها المعنوي والسياسي.
عبد الناصر لم يعد موجوداً بعد وفاته، إلّا عبر ميليشيات متصارعة في لبنان، وكلّ واحدة منها تنطق باسم الناصريّة. ومَهمّة أنور السادات في القضاء على الناصريّة لم تكن ممكنة لو أنّ عبد الناصر أنشأ تنظيماً متماسكاً ذا عقيدة. لم يترك وراءه حركة تستمرّ في حمْل الأفكار التي مثّلها حُكمه. أصبحت القوميّة العربيّة بَعده مجرّد شعار للحنين وللذكرى. تقارن ذلك بالقائد أنطون سعادة، الذي برغم قتْله غيلة بتآمر من أقطاب النظام اللّبناني الطائفي، بقي حاضراً عبر حزبه وعقيدته.
الحزب السوري القومي الاجتماعي عمَّرَ (رغم الجراح العميقة التي أصابته نتيجة تآمر النظام السوري وغيره عليه ورغم صراعات داخليّة قاتلة) لأنّ زعيمه ترك وراءه عقيدة وتنظيماً متماسكاً. ترك سعادة تنظيماً ذا قواعد داخليّة وهيكليّة قابلة للتجديد والديمومة. ميشال عفلق ترك وراءه حزبين قاتلَين مُتقاتلَين. هذا رجل نفض يده من الحزب قبل وفاته واكتفى بمكاتب فارهة في بغداد وبتنظيم لا معنى سياسيّاً له. عفلق لم يترك تنظيماً وراءه: ترك صدّام حسين وحافظ الأسد وأجهزة مخابرات دمويّة أسهمت في تدمير العالم العربي، وفي فتح النوافذ للتدخلات الاستعمارية الغربيّة في بلادنا.
التحدّي لا يزال قائماً: هل أنّ الحزب الذي شيّده ودعمه ونظّمه نصرالله سيستمر في الوجود بعده، أم أنّ غياب الشخصيّة الكبيرة ستُضعضع كيانه بعد الضربات الهائلة التي تعرّض لها؟ ولماذا بقي نصرالله بعد اندلاع حرب الإسناد متواجداً على وسائل الاتّصال التقليديّة، مِن سلكيّة ولا سلكيّة؟ لماذا لم تُتّخذ تدابير إضافيّة احترازيّة بعد اغتيال العاروري؟ ولماذا فوجئ نصرالله بما وصفه بتخطّي إسرائيل لـ«كل الخطوط الحمر»، كما قال في خطابه الأخير؟ أين كان مستشاروه ليحذّروه أنّ إسرائيل بعد «طوفان الأقصى» (وحتّى قَبلها) لا تلتزم بروادع وخطوط، وأنّ إدارة بايدن لن تضع ضوابط على حروب إسرائيل المتوسّعة؟
كيف أنّ المستشارين لم يحذّروا نصرالله بمجرّد اندلاع حرب الإسناد أنّه سيكون من المستحيل الحفاظ على حدود معيّنة للمواجهة بين الحزب وإسرائيل وأنّ إطلاق النار سينحصر ببقعة مزارع شبعا؟ ألم ينصح خبراء الأمن في إيران الأمين العام بضرورة أخْذ احتمال توسّع الحرب في الحسبان؟ لماذا لم يكن الحزب على اطّلاع معرفي بقدرات أميركا الصاروخيّة وقدرة قنابل خاصّة ابتدعتها بعد الحرب في أفغانستان للوصول إلى أعماق الأرض في مخابئ محصّنة؟
التحصّن لا يكون في النزول إلى طبقات أرضيّة سفلى، بل في الاختباء في أماكن لا يعرف عنها العدوّ ولا يشتبه بوجودها. الصحافة الغربية كانت تنشر بإسهاب عن تلك القنابل الخاصّة («مواب» وغيرها) التي كان هدف ابتكارها النزول إلى مغاور بن لادن ومخابئه تحت الأرض في أفغانستان. معرفة إسرائيل وأميركا بالمخابئ كان ممكناً عبر الأقمار الاصطناعيّة لأنّ الحفْر العميق (غير العادي) يلفت نظر الأقمار الاصطناعيّة التجسّسيّة. ووجود حفّارات عملاقة في الضاحية تلفت الأنظار وتنبّه الجواسيس المتغلغلين في الضاحية وفي غيرها من المناطق في لبنان.
وتفشّي ظاهرة المخدّرات (التعاطي والإتجار) في الضاحية وفي غيرها من مناطق تواجد الحزب كان يجب أن ينبّه الحزب أمنيّاً. من المعروف أنّ أجهزة المخابرات (من إسرائيل إلى المكتب الثاني في زمن جوني عبده، وقَبله وبَعده) تستعين بالمجرمين والمغتصِبين والقوّادين وتجّار المخدّرات. كان يجب على الحزب أن يخوض المعركة ضدّ الإتجار بالمخدّرات وضدّ تفشّي تعاطيها من باب الاحتياط الأمني. لا أدري مدى توسّع نطاق تحقيقات الحزب في الانكشاف الأمني الذي تعرّض له، لكنْ مِن المرجّح أن يكون هناك بين المتّهمين والمدانين تجّار مخدّرات ومدمنوها.
وجود نصرالله في هذه الأماكن كشفه أمام الذين يبيعون والديهم مقابل شحنة من المخدّرات القويّة. سيُقال إنّ بيئة لبنان بيئة فاسدة ومفسدة وهذا صحيح، لكنّ الحزب كان يخوض حروباً في سوريا إلى جانب فرق عسكريّة نظاميّة امتهنت (لمصلحة نظام الأسد) الإتجار بالمخدّرات. وانكشاف الحزب في سوريا كان مبكّراً جداً (قبل اندلاع الحرب هناك) لكنّ قادة الحزب وكوادره حافظوا على مسار تجوالهم بين لبنان وسوريا، والبعض أقام هناك لغايات عسكريّة وتنظيميّة. عندما تفكّر بكلّ ذلك تتبيّن أنّ إطلاق حرب الإسناد قبل توفير الجوّ الأمني الملائم، لأمين عام الحزب وعَمَل الحزب بصورة عامّة، كان مخاطرة كبيرة. واللّافت أنّ نصرالله في آخر خطاب له اعترف بعمق الاختراق عندما قال إنّ قرار الثأر سيُتّخذ في دائرة ضيّقة جداً. هل أنّ الدائرة الضيّقة كانت في نطاق لقاء الرضوان الذي جمع كلّ القادة العسكريّين تحت سقف واحد؟
(يتبع)