حمزة البشتاوي
أعادت معركة طوفان الاقصى وفق المفهوم الإستراتيجي لعمل المقاومة، بحث مسألة وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وكذلك إعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية بالكفاح المسلح والصمود الأسطوري، منذ أن دوى الطوفان كاسراً لقواعد الإشتباك وإعادة صياغة معادلات الصراع ومكانة فلسطين على خارطة العالم.
لقد هز الطوفان على المستوى الإستراتيجي أركان وجود الإحتلال وقدم درساً على مدار عامين في نهج القوة والأهداف إستناداً إلى إرادة الشعب والمقاومة المصممة على الخلاص من الإحتلال رغم كل المجازر الوحشية والدمار التي لم تخفي حقيقة أن الطوفان هز كيان الإحتلال وكشف هشاشة وجوده.
وكان الشهيد القائد يحيى السنوار قد أعلن قبل أشهر من إنطلاق معركة طوفان الأقصى بأن المقاومة الفلسطينية ستجعل (إسرائيل) في عزلة خانقة وستدفع المجتمع الدولي إلى التعامل مع فلسطين كحقيقة لا كقضية إنسانية طارئة، وهذا الكلام ارتبط بالإستراتيجية والرؤية وبأن المعركة القادمة لن تكون جولة تقليدية بل إشتباكاً كاسراً لقواعد اللعبة وكافة المعادلات.
تسنتد رؤية الشهيد السنوار للعمل المقاوم بأن القضية هي فكر وعمل وأن النصر لا يقاس بحجم الخسائر بل بقدرة الشعب والمقاومة على إعادة تشكيل البيئة الدولية لصالح القضية الفلسطينية وهذا ما أحدثته معركة طوفان الأقصى والصمود الأسطوري الذي حرك طوفان إنساني عالمي على مستوى الجامعات والمظاهرات في مختلف أنحاء العالم بالإضافة لحدوث إنهيار في جدار الإجماع الغربي حول كيان الإحتلال وصولاً إلى إعتراف ثلاث دول أوروبية كبرى بعد رضوخ مزمن لفيتو إسرائيلي استمر لعقود، وبعد أن اصبحت صور حرب الإبادة والمجازر في قطاع غزة تتصدر وسائل الإعلام العالمية وتشكل في فظاعتها رأس حربة في عملية تفكيك سردية الإحتلال.
وبلغت ذروة الطوفان على المستوى العالمي حين ألقى مجرم الحرب بنيامين نتنياهو خطاب أمام قاعة فارغة في الأمم المتحدة بعد إنسحاب عدد كبير من الوفود، وهذا أشار بشكل واضح أن معركة طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية إلى موقعها كقضية تحرر وطني لشعب تحت الإحتلال يدافع عن أرضة وحقه بالحياة.
وأثبتت إستراتيجية المقاومة ورؤية السنوار بأن الميدان ليس مجرد ساحة قتال، بل هو محرك أساسي لإعادة هندسة المشهد على المستوى العربي والإقليمي والدولي لصالح القضية الفلسطينية بعد أن نجحت المقاومة الفلسطينية في إرباك المنظومة العسكرية الإسرائيلية وكسر خطوطها الحمراء واحداث خلخلة كبرى في منطق الردع الصهيوني الذي طالما قدم نفسه كقوة لا تقهر، دون أن يتمكن خلال حرب الإبادة من القضاء على المقاومة المنبثقة من المجتمع الفلسطيني وهما جسم واحد في المعركة التي ثبت فيها فشل كيان الإحتلال على المستوى الأمني والإستخباري والعسكري وسقوط جميع التحصينات والجدران الإسمنتية والتكنولوجيا أمام شعب ومقاومة تعيش تحت حصار، وفارق كبير في العدة والعتاد.
وفي ظل قسوة الحصار على غزة وقبل عام تقريباً من معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول عام 2023 قال الشهيد السنوار صاحب التجربة الكبيرة في الأسر والسياسة والميدان: سوف نأتي إليكم إن شاء الله في طوفان هادر، سوف نأتي إليكم بصواريخ لا نهاية لها وهذا ما حصل يوم السابع من تشرين الأول حيث استخدمت المقاومة عنصر المفاجأة والإقتحام والمواجهة المباشرة وأسر المئات من المستوطنين والجنود وتكبيد الإحتلال خسائر مادية وبشرية في معركة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
ومنعت معركة طوفان الأقصى المزيد من السقوط العربي في فخ التطبيع، وأكدت على شرعية المقاومة واستمرار مسيرة التحرر الوطني رغم كل التضحيات وذلك باستراتيجية عابرة لحسابات كيان الإحتلال الذي أعتقد بأن المقاومة تراجعت ويمكن أن تصمت تجاه عذابات الأسرى والإعتداءات على القدس والمسجد الأقصى وإدامة الحصار على قطاع غزة ورفع وتيرة الاستيطان بالضفة الغربية، ولكنه وبشكل مفاجئ تلقى ضربة في الصميم، وسقطت في هذه الضربة فرضية تطويع الإنسان الفلسطيني والإستفراد به وهذا فشل كبير، حيث استطاع الشعب الفلسطيني رغم أهوال وكوارث حرب الإبادة أن يبرز قدرته على إجتراح أدوات صموده وعصيانه على الإنكسار.
وفي استراتيجية العمل المقاوم تميزت رؤية السنوار بالحرص على الوحدة الوطنية وبناء علاقات مميزة مع كافة الفصائل الفلسطينية دون استثناء بما يخدم مشروع المقاومة وعملها في الميدان، وفي هذا السياق بذل مع حركة فتح جهوداً حثيثة لإنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الوطنية إيماناً منه بالعمل المشترك على المستوى الوطني العام، وكان دائماً يشيد ب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكوادرها وعناصرها ويتمنى أن تستفيد حماس وغيرها من الفصائل من خبراتها، وكان يوصي دائماً بأفضل العلاقات مع حركة الجهاد الإسلامي حيث قال إستناداً إلى رؤيته الوحدوية: أوصيكم حياً وميتاً ممنوع منعاً باتاً الوصول إلى أي صدام مع أخواننا في حركة الجهاد، وتجسدت رؤيته هذه بتشكيل غرفة العمليات المشتركة خلال معركة سيف القدس عام 2021، وترسخت الرؤية أيضاً في الميدان خلال معركة طوفان الأقصى التي اعتبرت أخطر وأكبر هجوم فلسطيني عسكري ضد الإحتلال.
وبما أن المقاومة عند السنوار هي خيار وجود وليس تكتيك حضرت شخصيته في هذا الهجوم كمهندس للإنهيار الهيكلي للكيان الصهيوني في معركة استراتيجية فشل فيها جيش الإحتلال عسكرياً وسياسياً ووقع الكيان برمته في عزلة دولية وهزيمة اقتصادية وانقسام داخلي ستكون له تبعات سياسية وأمنية في المدى القريب.
واليوم وبعد مرور أكثر من عامين من الصمود الأسطوري تفرض معركة طوفان الأقصى نفسها كحدث استراتيجي تأسيسي يعيد صياغة معادلات الصراع الطويل والمستمر، وفيه ستبقى هذه المعركة في ذاكرة الأجيال فعلاً مقاوماً مبدعاً وعلامة فارقة وحدثاً تاريخياً من خارج التوقع والنمطية في الصراع مع الإحتلال.
وستبقى في ذاكرة الأجيال مسيرة الشهيد القائد يحيى السنوار المليئة بالفعل المقاوم والثبات حتى آخر نفس، وكيف جسد في لحظة استشهاده وهو ملثم بالكوفية الفلسطينية حاملاً بندقيته وعصاه الخشبية فلسفة المقاومة حتى الرمق الأخير، وأن المقاومة ليست خياراً سياسياً يمكن التفاوض عليه بل هي قدر شعب يناضل من أجل الحرية والإستقلال.