لا يحتاج أهالي غزة إلى كثير من الكلام ليشرحوا حجم معاناتهم مع أزمة المياه، يكفي أن تمرّ في أحد الأزقة، أو قرب إحدى الخيام التي تمددت كبحرٍ رماديّ على امتداد القطاع، لتجد عشرات الدلاء مصطفّة بانتظار خيط ماء لا يصل، أو يصل متقطعًا كأنفاس منهكة.
ورغم دخول الطقس البارد، وما يدفع إليه من تقليل الاستهلاك، تتعمّق أزمة المياه يومًا بعد يوم، حتى بات الحصول على عدة لترات يومية حلماً يطارد أكثر من مليوني مواطن، يقفون على حافة العطش في منطقة محاطة بالبحر لكنها محرومة من نعمة الماء.
مياه قليلة.. بل نادرة
في كل حيّ، يهرول السكان خلف شاحنات المياه كمن يطارد آخر فرصة للحياة، صفير الشاحنة بات موسيقى يومية يعرفها أهل القطاع جيدًا، ويرفع منسوب القلق داخل كل خيمة، فإما أن تصل مبكرًا لتحجز مكانًا في الطابور، أو تعود خالي الوفاض.
محمد حمودة، أحد النازحين إلى منطقة المواصي بخان يونس، يقول وهو يحمل دلوه: “نعيش فوق خزان مائي ضخم، لكننا نموت عطشًا. ما نحصل عليه يوميًا لا يكفي فردًا واحدًا، فكيف بعائلة كاملة؟”.
ثم يشير إلى الخيام حوله: “حتى المياه التي نجدها في الأرض لم تعد صالحة، الامتصاصات، والركام، وانعدام أي معالجة… كل شيء ملوث”.
أزمة تتخطى الماء
الاحتلال دمّر خلال الحرب معظم آبار المياه ومحطاتها، واستهدف الشاحنات والعمال والنازحين أنفسهم أثناء بحثهم عن الماء.
ومع الانقطاع شبه الكامل للوقود، تعطل ما تبقّى من آبار يمكن تشغيلها.
عادل أبو مهلدي، الذي يعتمد على خط مياه من أرض زراعية قريبة، يقول إن بئرهم الغاطس يتوقف في الأيام الغائمة: “المولد يعمل عبر الطاقة الشمسية مباشرة دون بطاريات تخزين، ومع غياب الشمس.. نعود جميعًا للبحث من جديد”.
أما عبد الرحمن الأسطل، فيروي أن بئر عائلتهم الذي كان يروي الحارة كلها، دُمّر بالكامل خلال الاجتياح الأخير. واليوم تقف عائلته في الطوابير مثل غيرها، في رحلة بحث يومية شاقة.
مياه تُشترى بالثمن الباهظ
معظم العائلات باتت مضطرة لشراء المياه من الشاحنات الخاصة. أبو تامر عاشور يوضح: “ألف لتر بين 80 و100 شيقل، هذا مبلغ كبير، ولا يكفي أكثر من يومين أو ثلاثة لعائلتين. لكن ماذا نفعل؟ الماء ليس رفاهية”.
ويؤكد أن حتى الشاحنات لم تعد تكفي، الزحام هائل، والكمية محدودة، وما يوزّع غالبًا غير صالح للشرب.
كارثة إنسانية تتشكل
مصادر محلية في غزة تقول إن الاحتلال استخدم الماء والغذاء والدواء كسلاح مباشر خلال الحرب، ودمر 90% من البنية التحتية المدنية، وقطع الوقود الضروري لتشغيل كل ما يتعلق بالمياه والصرف الصحي.
وخلال خمسين يومًا من وقف إطلاق النار، دخل إلى القطاع من الوقود ما يكفي خمسة أيام فقط لتشغيل مرافق البلديات. خمسون يومًا مقابل خمسة… معادلة لا تصمد أمام حجم الدمار ولا حاجات الناس.
تحذيرات دولية
المقرر الأممي الخاص بالحق في مياه الشرب والصرف الصحي، بيدرو أروخو-أغودو، حذّر من كارثة تتفاقم في كل ساعة، مؤكداً أن الاحتلال دمّر نحو 90% من محطات المياه، وأن تلوث المياه ينذر بأمراض قاتلة بينها الكوليرا.
وقال في بيان: “التعطيش استُخدم كسلاح مباشر، وما بعد وقف إطلاق النار لم يغيّر حقيقة أن الأزمة الإنسانية تتضخم”.
حياة على حافة العطش
تبدو غزة اليوم وكأنها تعود سنوات طويلة إلى الوراء. قطاع محاصر، بلا بنية تحتية، بلا وقود، بلا قدرة على إنتاج قطرة ماء نظيفة، ملايين يعيشون بين الركام، يراقبون السماء بحثًا عن غيمة تحمل المطر، أو شاحنة تحمل حياة.
ورغم كل ذلك، يواصل الأهالي البحث عن حلول بسيطة: مدّ خطوط مشتركة بين الخيام، تنظيم طوابير أكثر عدلاً، أو محاولة تشغيل بئر هنا أو هناك… لكنها تبقى حلولاً لا تصمد أمام أزمة بهذا الحجم.