آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسياسيّة والعسكريّة [1]

علم_حزب_الله.svg

أسعد أبو خليل

ليست هذه مرثيّة لحزب ما يزال موجوداً بقوّة (وهذا ما أكّده قبل أيّام، أمينُه العام الجديد)، وليست هذه بمنزلة مضبطة اتّهام من شخص غير حزبي يعيش في الغرب بعيداً من حِمم الطّائرات والصواريخ الأميركيّة.

وليست هذه دعوة لمحاسبة مَن دفعوا من دمهم ومالهم وسكنهم ثمناً للمواجهة مع إسرائيل. لكنّ الذي جرى كبير، وكبير جداً، والذي تعلّمنا منه في السابق أنّ غياب المراجعة في 1948 وفي السويس في 1956 وفي 1961 يوم الانفصال ومن 1967 (بعيداً من المراجعات الاستشراقيّة العنصريّة الذميمة التي صدرت في باب «النقد الذاتي»)، أو في 1982، عندما رفضت القيادة العَرَفاتيّة الاعتراف بالهزيمة فيه، ما أدّى إلى حلّ التنظيم العسكري للمقاومة الفلسطينيّة تمهيداً لاستسلام منظّمة التحرير في مسيرة أوسلو التي ما نزال نعاني منها.

هذه دعوة للمصارحة من قِبل كلّ المهتمّين لأنّ غير قرن من النِّضال لم يقرّبنا من فلسطين. والكلّ معنيّ بالإسهام لأنّ خطر إسرائيل يعنينا جميعاً ولا يعني فئة بعَينها أو حِزباً بعينه. لا سؤدد لنا ولا فلاحَ ولا حياة بوجود الكيان الاحتلالي بيننا. حتى عدم توافر الكهرباء في لبنان، يتأثّر بالمقاطعة التي يفرضها اللّوبي الإسرائيلي علينا. وسوريا بعد تغيّر النظام، ما تزال خاضعة لعقوبات يفرضها عليها اللّوبي الإسرائيلي من أجل الحصول على تنازلات تهمّ إسرائيل. إصلاح محطات الكهرباء في سوريا اليوم ممنوع بحُكم العقوبات التي لا تزال مفروضة.

والسبب الأوّل في تفوّق العدوّ العسكري والحربي (بعيداً من استنتاجات مدارس «النقد الذاتي») يكمنُ في الرعاية الغربيّة للكيان الإسرائيلي وجرائمه. في هذه الحرب، وقفَ الغرب (كلّ الغرب، بصرف النظر عن صوت لنائبة مساعد وزير في هذه الدولة الغربيّة أو تلك) وقفةً واحدة متراصّة إلى جانب حرب إبادة لم يسبق لها مثيل. هي هولوكوست حيّة على الهواء مباشرة.

في هولوكوست الحرب العالمية الثانية، لم يعرف العالَم حقيقة ما جرى إلّا بعد تحرير ضحايا المعتقلات النازيّة. تلك الصور ترسّخت في الذهنية الإنسانيّة، خصوصاً في الغرب (المسؤول الأوّل عن تلك الحرب المجنونة)، وبدلاً من أن تؤدّي إلى وقف المجازر وجرائم الحرب والإبادة أدّت إلى تصليب الدعم الغربي لدولة العدوان الإسرائيلي باسم الإنسانيّة وتكفيراً عن ذنوب الغرب المتورِّط.

هل أنّ هذا هو زمن المراجعة أم أنّنا ما نزال نعيش في أتون الحرب؟ هل هناك زمن للمراجعة وزمن للانكفاء النقدي؟ هل ننتظر الإذن قبل إصدار الأحكام، خصوصاً ممّن يمارس مهنة التعليق والتحليل والتنظير (من بُعد، كي أستبق مَن سيذكّرني بمكان إقامتي)؟ الحرب والعدوان الإسرائيلي مستمرّان وخُطَط التطهير العِرقي تُتداول في العلن وأمام الإعلام، والسفير الإماراتي في واشنطن (الوثيق الصلة باللّوبي الإسرائيلي) رأى (من دبي) أنّه لا بديل عن خطّة ترامب للتطهير العِرقي. العدوان والإبادة جاريان والمحاسبة والمراجعة قد تبدوان ترفاً فكريّاً إلّا إذا رأَينا أنّ استخلاص العِبر هو ضرورة من ضرورات المواجهة والدفاع عن النفس في وجه عدوان وحشي.

لا يتحمّل الحزب، وكلّ فريق المقاومة العربي، أن يؤجِّل عمليّة المراجعة والمحاسبة من أجل التقدّم إلى مرحلة أماميّة، وليس خلفيّة كما جرى مع منظمة التحرير بعد 1982. ياسر عرفات رفض كلّ نصائح المراجعة والدعوات للنقد الذاتي، وهو ليس وحيداً. كلّ الفصائل الفلسطينيّة، بما فيها الجبهة الشعبيّة والجبهة الديموقراطيّة (اللّتان ابتعدتا بصورة عامّة، خصوصاً بالمقارنة مع «فتح» و«الصاعقة»، عن الفساد) مسؤولة عن عدم تطبيق مبادئ النقد الذاتي ومراجعة الفكر والممارسة العسكرية والسياسيّة.

لا يمكن الفصل بين الممارسة العسكريّة والسياسيّة. الاتّحاد السوفياتي امتنع بصورة واضحة عن تزويد العرب بسلاح كان يمكن أن يقضي على وجود دولة إسرائيل. أي إنّ الاتحاد السوفياتي منح العرب السلاح تحت سقف منْعهم من النصر. والفصائل الفلسطينيّة ارتبطت بأنظمة عربيّة وتلقّت منهم التمويل مقابل شروط سياسيّة (وهذا يسري على فصائل «جبهة الرفْض»، بين 1974-1977).

منظّمة التحرير خرجت طرداً من عمّان ومن بيروت من دون إجراء مراجعة جديّة للتجربة في أيٍّ من الحالتَين. عرفات (المسؤول أكثر من أيّ قائد فلسطيني في القرن العشرين عن الحالة المزرية التي بلغتها حركة المقاومة الفلسطينيّة) كان يساوي بين المراجعة والنقد الذاتي وبين التشكيك والتخوين. لا، عرفات رفض مبدأ المحاسبة وكافأ المسؤولين عن الكارثة العسكريّة، خصوصاً الحاج إسماعيل، القائد العام لقوّات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة في صيف 1982. إسماعيل كان أوّل الفارّين من المعركة واحتفظ به عرفات ثم عيّنه مسؤولاً رفيعاً في مقاطعة أوسلو في الضفّة.

إنّ مستقبل حزب الله محفوف بمخاطر كبيرة، وقدرته على التعامل مع أخطاء المرحلة الماضية وزلّاتها وخطاياها ستقرّر فُرص نجاحه في النهوض والتطوُّر. النهوض والانطلاق ليس مضموناً في حياة تنظيمات التحرير والمقاومة

التمنّع عن تقبّل المراجعة مفهوم، لا بل منطقي. الحرب الوحشيّة جارية وجمهور المقاومة في حالة تفجّع وحزن شديدَين، كما إنّ أكثر من 200 ألف جنوبي لا يزالون من دون منازل، فيما العهد الجديد يمنع عنهم المال الإيراني من دون تقديم بدائل (تماماً كما يمنع عنهم السلاح الإيراني بأمر من إسرائيل من دون تقديم بدائل لهم أو للجيش اللّبناني). والإعلام المعادي (عربيّاً كان أم إسرائيليّاً أم غربيّاً) لا يشجّع على ثقافة نقْد الذات والمراجعة. أيّ تصويب، ولو مُلَطَّف، يمكن أن يتساوى في نظر مؤيّدي المقاومة مع الحملات الظالمة والمُغرضة التي تتعرّض لها حركات المقاومة.

وهذا كان صحيحاً في تجربة منظّمة التحرير، مع أنّ الإعلام العربي كان مؤيّداً لها في كلّ السنوات التي سبقت اجتياح العراق للكويت في 1990. اليوم، هناك تنسيق لجهود الإعلام والبروباغاندا بين «الناتو» وأنظمة الخليج وإسرائيل (عبر مكتب تنسيق في دبي). هذا الإعلام الحربي العدوّ يعزِّز النزوع نحو التستّر والاعتذاريّة والدفاع المطلق عن الذات. إنّ المصارحة ترفد جهود التصحيح التنظيمية والسياسيّة الجارية.

إنّ مستقبل حزب الله محفوف بمخاطر كبيرة، وقدرته على التعامل مع أخطاء المرحلة الماضية وزلّاتها وخطاياها ستقرّر فُرص نجاحه في النهوض والتطوُّر. النهوض والانطلاق ليسا مضمونين في حياة تنظيمات التحرير والمقاومة. منظمة التحرير (بكلّ فصائلها، بما فيها اليساريّة) تكلّست وترهّلت بعد 1982 لأنّها امتنعت عن التصحيح. هناك جمهور كبير للحزب، وهذا الجمهور ينتظر ويستحقّ إجابات عن تساؤلات كثيرة رافقت المرحلة الماضية. والأسئلة بعضُها سياسيّ الطابع، وبعضها أمني وبعضها عسكري. قد يقول قائل أو قائلة إنّه لا يمكن إجراء مراجعة من قِبل أشخاص غير خبراء، أو مِن قِبل الذين لا يملكون معلومات محدّدة وتفصيليّة من الداخل.

لكن: أَلَم يكن واضحاً أنّ العدوّ نفسه يمتلك من المعلومات عن الحزب (سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً) أكثر ممّا يمتلك البعض في جمهور الحزب؟ إنّ الحزب انطلق من حالة عدم وجود في 1982 وفي غضون أقلّ من عقدَين من الزمن، وتحت قيادة نصرالله التاريخيّة، تحوَّل إلى أكبر حزب سياسيّ في لبنان وكلّ العالم العربي. كما إنّ قوّته العسكريّة ضاهت قوّة الجيوش. انتصرت المقاومة في 2006 ضدّ أكبر جيش في المنطقة، وهذا دليل على التطوّر الهائل الذي بَلَغته قوّة الحزب العسكريّة. في كتابات ماو تسي تونغ العسكريّة (خصوصاً في كتابَيه «عن حرب العصابات» و«الحرب الطويلة الأمد») هناك تشديد على ضرورة التكيّف مع التطوّرات الميدانيّة وعلى الحاجة إلى التعامل بجدليّة مع الوضع المستجد.

هو دعا إلى مراجعة الوضع العسكري للحركة كما لوضعِ العدوّ. هذا ما وصفه بتحليل التناقضات خلال الحرب. في حرب العصابات، كان ماو من دُعاة «السيولة» أو «الانسيابيّة» في التعامل مع قوّات العدو. يقول: «عندما يتقدّم العدوّ، نتراجع. عندما يتوقّف العدوّ، ويخيِّم، نُزعجه. وعندما يتعب العدوّ، نهجم». لكن: ما فائدة هذا الكلام؟ الحزب شكّلَ مدرسة قتاليّة تاريخيّة في مقاومة جيش الاحتلال. له من الخبرة والعِبرة والحكمة في القتال ما لم يكن متوافراً للجيوش وحركات التحرّر من قبل.

إنّ أخطاء المرحلة السابقة لم تكن عسكريّة محض، ولم تكن ميدانيّة الطابع، بل كانت مجموعة من الأخطاء المتعلّقة بالممارسة السياسيّة والأمنيّة التي أعطت العدوّ مجالاً أوسع للانقضاض. ولقد وازى ماو بين الإصلاح السياسي والتطوّر العسكري. هو حارب (قبل النصر في 1949) ظواهر عدم الجدوى البيروقراطيّة والظواهر غير الثوريّة بالإضافة إلى ضرورة التصحيح التنظيمي عبر النقد الذاتي الداخلي.

لقد فتحت مقابلة نوّاف الموسوي الأخيرة المجال أمام بدء عمليّة إصلاح. لكنّ بعض ردود الفعل أَوحَت أنّ التقبّل لم يكن شاملاً. هناك من انتقده لتحميل الحزب المسؤوليّة. لكنْ: كيف يمكن مثلاً ألّا يطالب كلّ أعضاء الحزب بمحاسبة صارمة عن اغتيال نصرالله؟ كان الرجل أكبر عنصر قوّة في الحزب. لا يمكن نسْبُ كلّ جوانب التفوّق الإسرائيلي الأخير إلى عناصر القوّة الأميركيّة أو الذكاء الاصطناعي أو إلى أنّ العدوّ «تجاوز كلّ الخطوط الحمر».

إنّ موضوع تجاوز العدوّ لكلّ الخطوط الحمر يجب أن يكون معلوماً من قِبل أيّ متابع للقضيّة الفلسطينيّة ولكلّ دارس لتاريخها منذ الثلاثينيّات والمواجهة المباشرة بين العرب والصهاينة. الذكاء الاصطناعي لا قيمة له من دون توجيه بالذكاء الإنساني. يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى تلقيم معلومات بشرية. يستطيع الذكاء الاصطناعي، مثلاً، أن يطارد شخصاً ما، وأن يرصد صوته أو وجهه، لكنْ لا يستطيع أن يعرف هويّته أو دَوره من دون معلومات محدّدة يمدّه البشر بها. عندما تستعمل أيّ وسائل الذكاء الاصطناعي المفتوحة، مثل «تشات جي بي تي»، تكتشف قصور هذه الوسائل. هناك حدود للمعرفة لا يسدّها إلّا تلقيم جديد.

الاتّكال على تفسير الذكاء الاصطناعي أو التدخّل الأميركي إلى جانب إسرائيل يمكن أن يحوِّر الموضوع ويخفّف من المسؤوليّة الذاتيّة. الإعلام المصري في التعامل الأوّلي مع نتائج الهزيمة في 1967، أفرط في الإصرار على التدخّل الأميركي العسكري المباشر مع إسرائيل. هذه المرّة، كان الحزب يواجه بالفعل تدخّلاً أميركيّاً عسكريّاً مباشراً، بالإضافة إلى تدخّلات قوّات حلف شمال الأطلسي المشاركة في «يونيفيل».

والجيوش والاستخبارات العربيّة باتت سنداً لإسرائيل في حروبها ضدّ قوى المقاومة التي لا يسندها (فعليّاً) إلّا إيران. ولهذا السبب بالذات تتركّز كلّ الانتقادات والسُّخرية ضدّ النظام الإيراني. ترى إعلاميّات لبنان وإعلاميّيه يردّون (منتقدين أو ساخرين) بانتظام على كلّ تغريدة لخامنئي. لكنْ: هل يجرؤ هؤلاء على السُّخرية من مساعد نائب مستشار لأمير أو شيخ نِفطي أو غازٍ؟

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة