بقلم: د. عبد الرحيم جاموس
في قلب الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، تبرز الدول العربية ككيانات تمتلك ثروات طبيعية، و عمقًا حضاريًا، وموقعًا استراتيجيًا يجعلها دائمًا تحت المجهر.
غير أن هذا الثراء والغنى والموقع لم يتحول إلى قوة حقيقية لها ، بل صار في كثير من الأحيان عبئاً عليها و لعنة داخلية وخارجية ومطمعا للآخرين .
وبينما تتعرض المنطقة العربية لموجات متعاقبة من الاستهداف الخارجي منذ قرون ، فإن التآكل الذاتي من الداخل غالبًا ما يكون الأشد فتكًا فيها ، وهو ما يتجلى اليوم في حالة العديد من الدول العربية و بوضوح في حالتي سوريا وفلسطين.
أولًا: التآكل الذاتي… جرح ينزف من الداخل ولا يندمل …..
إن أخطر ما يهدد الدول ليس العدو الخارجي فقط ، بل حين تتصدع الجبهة الداخلية يكون الخطر اكثر عمقا وإيلاما .
ففي سوريا، تحولت مطالب الإصلاح والعدالة الاجتماعية إلى بوابة للفوضى، نتيجة غياب الآليات السياسية القادرة على احتواء الأزمات الداخلية بوسائل سلمية ومؤسساتية وقانونية .
التراكمات المزمنة من الفساد، التهميش، واحتكار السلطة، جعلت من الدولة أرضًا خصبة للاختراق والضعف والتمزق ، وساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
أما في فلسطين، فالنزاع بين الفصائل، والانقسام السياسي والجغرافي الذي احدثه انقلاب حركة حماس صيف 2007 م ، عمّق من حالة الضعف و التآكل الداخلي.
بدل أن يتوحد المشروع الوطني الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي، تشرذم الصوت الفلسطيني، وأُنهكت الطاقات الفلسطينية في صراعات داخلية جانبية وفرض حالة من التجاذبات السياسية فتت في عضد الشعب الفلسطيني وانهكت مؤسساته الوطنية و أعاقت بناء استراتيجية تحرر وطنية فلسطينية شاملة قادرة على مواجهة تلك التحديات وانجاز عملية التحرر الوطني .
ثانيًا: الاستهداف الخارجي… هو المطرقة التي لا تتوقف…
الاستعمار لم يغادر المنطقة العربية مطلقا ؛ بل غيّر من اساليبه و أدواته.
من الاحتلال العسكري المباشر إلى السيطرة الناعمة عبر الاقتصاد، والإعلام والثقافة ، والتمويل المشروط. في سوريا، تداخلت أجندات قوى إقليمية ودولية، وكل طرف يسعى لتفصيل سوريا على مقاس مصالحه وحساباته الإستراتيجية . وبدل أن تكون الدولة السورية قوية و موحدة، أصبحت هشة وضعيفة و مسرحًا لتقاسم النفوذ للقوى الإقليمية والدولية .
أما في فلسطين، فإن الاستهداف الخارجي لا يحتاج إلى شرح و تفسير فهو واضح ومخطط ووضعت قواعده منذ قرون .
الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالعدوان العسكري المباشر والمتصاعد فقط ، بل يمارس استعمارًا استيطانيًا إحلاليًا عنصريا طويل الأمد، يسعى ويهدف لمحو الهوية والوجود الفلسطيني برمّته عن ارض فلسطين ، وتصفية الشعب الفلسطيني وقضيته ، و إفنائه أو اذابته في مجتمعات اخرى خارج الأرض والجغرافيا الفلسطينية ، ويتم تنفيذ ذلك بدعم غربي استعماري سافر ، بدأ التخطيط والتنفيذ له منذ اكثر من قرنين من الزمن ، وتوج بإغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على الجزء الأعظم من فلسطين سنة 1948 م واتمام احتلال واغتصاب فلسطين في عام 1967 م ، اليوم يسعى الكيان الصهيوني الى فرض سيطرته على كامل اقليم فلسطين والإندماج في كمياء المنطقة العربية والشرق الاوسط دون الإقرار بأي حق من الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني في وطنه، وتطبيع علاقاته مع الدول العربية دون ذلك ، فنحن أمام حالة من تطبيع عربي صامت ، أو معلن مع الكيان الصهيوني .
ثالثًا: ما العمل؟
العمل نحو مشروع عربي مضاد..!
لمواجهة هذا الواقع المركب من التفكك والتآكل الداخلي والضغط الإستعماري الخارجي، لا بد من بناء مشروع صمود وتضامن عربي جامع، يستند إلى:
1. انجاز مصالحة داخلية شاملة: لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون وحدة وطنية و لُحمة داخلية صلبة ومتماسكة .
المصالحة الوطنية في سوريا يجب أن تكون على اساس و قاعدة شراكة سياسية حقيقية تضمن التعدد والكرامة والعدالة.
وفي فلسطين، لا بد من تجاوز الإنقلاب وما نتج عنه من انقسام سياسي وجغرافي، وكوارث اجتماعية وانسانية لاحصر لها ؛ وبناء مشروع وطني واحد موحد ، يرتكز إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة غير القابلة للتصرف في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، و بناء قيادة وطنية موحدة تمثل الكل الفلسطيني على اسس ديمقراطية .
2. إعادة بناء الدولة العربية على أساس المواطنة: وهذا يقتضي تفكيك البُنى الطائفية والعشائرية، وإرساء دولة المؤسسات والقانون، لأن ذلك هو خط الدفاع الأول ضد التآكل الذاتي للدولة .
3. تحصين الوعي العربي: من خلال الإعلام والثقافة والتعليم كأدوات مقاومة فعالة في تكريس وحدة الدولة والمجتمع .
المطلوب هو بناء وعي شعبي يعيد الاعتبار للمصلحة الوطنية والقومية، ويُفشل مشاريع التفتيت والتطبيع والتبعية.
4. إحياء المشروع القومي العربي: رغم التحديات الكبيرة ، لا يزال الحلم العربي مشروعًا ممكنًا ان تعاد له الحياة ، إذا ما اقترن بإرادة شعوب حية، وقيادات تمتلك الإرادة و الرؤية والاستقلالية.
خلاصة الأمر ، ليست الهزيمة قدرًا محتوما ، ولا الاحتلال أبدًا دائمًا ، سوريا وفلسطين، رغم الجراح العميقة ، لا تزالان تحملان بذور النهوض والبناء الوطني ، لكن المعركة ليست فقط على الأرض، بل في الوعي، والإرادة، والقدرة على تخطي الذات قبل العدو.
إن وقف عوامل التآكل الذاتي والتصدي للاستهداف الخارجي يبدأ من قرار وطني جامع و قرار عربي جامع: بأننا نستحق الوحدة و الحياة والحرية والسيادة.
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض 5/5/2025 م