خريستو المر
ما نراه اليوم في غزّة والضفّة الغربيّة ليس «نزاعاً»، ولا «صراعاً»، ولا «دوّامة عنف» كما يروّج الإعلام الغربي. ما نراه هو الاستعمار في أنقى صوره: استعمارٌ يُمارس على اللحم الحيّ، على الجسد الفلسطينيّ، على الأرض التي يُراد اقتلاع أهلها منها. لا شيء يصف الواقع كما تصفه كلمة الاستعمار. والمستعمر، أيّاً كانت لغته أو ادّعاءاته أو تكنولوجيّاته، يبقى مشروعاً إباديّاً في جوهره، مشروعاً يسعى لا إلى السيطرة فقط، بل إلى الإزالة، إلى المحو؛ وإن أبقى على السكّان الأصليّين أحياء لاستحالةِ أو كلفةِ إبادتهم، فهو يفعل ذلك للاستفادة من يد عاملة رخيصة بعد أن يكون قد محا قدرتهم على الفعل والتأثير والعيش بكرامة وحرّية، ويكون قد سلبهم الأرض أوّلاً، والثقافة إن أمكن.
الاستعمار الصهيوني في فلسطين ليس استثناء عن التاريخ الاستعماري، بل أحد وجوهه الوحشيّة. فكما فعل الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر حين أباد جنود الاستعمار الفرنسيّ ما يقارب ثلث الجزائريّين خلال العقود الأولى من استعمارها للجزائر، كذلك يفعل الاستعمار الصهيوني اليوم في فلسطين حين يستمرّ بحرب إباديّة منذ أكثر من عام ونصف عام. ما نراه من قصف وتدمير وتجويع وقتل وتهجير قسريّ، ليس «ردّ فعل» ولا «حرباً دفاعيّة»، بل هو جزء من مشروع استعمار استيطانيّ يرى في وجود الفلسطينيّ نفسه خطراً يجب إزالته.
كلّ طفل فلسطينيّ يولد، كلّ أمّ تمسك بيد ابنها، كلّ فتاة ترفع قبضتها، كلّ فتى يرفع صوته، هم تهديد لهذا المشروع الإباديّ لأنّهم يُصرّون على أن يوجدوا؛ كلّ مخبز، كلّ مستشفى، كلّ مدرسة هي تهديد لهذا المشروع الإباديّ لأنّها أدوات استمرار الوجود بكرامة. كلّ بلد في منطقتنا متوحّد حرّ قادر، لا مفتّت ولا ضعيف، هو تهديد للاستعمار، لاستمرار النظام الصهيونيّ الانعزاليّ الاستعلائيّ الافتراسيّ للأرض والبشر.
روح المقاومة ليست خياراً، بل ضرورة وجوديّة. حين يكون البديل هو المحو الجسديّ أو المعنويّ، تصبح المقاومة فعلاً للحياة. إنّها ليست فقط دفاعاً عن أرض، بل عن الكرامة، عن المعنى، عن الحقّ في أن نكون، بل الحقّ في أن يحيا الجميع بشكل إنسانيّ متساوٍ في الكرامة. المقاومة هي ما يجعل الفلسطينيّ يقول: «أنا موجود». هي ما يجعلنا في منطقتنا موجودين بحرّية. وهي ما يجعلنا، خارج فلسطين والمنطقة، نرفع الصوت، نرفض الصمت، نفضح الأكاذيب، وننحاز بوضوح.
لا حياد في وجه الاستعمار. أن تقف على الحياد هو أن تمنح القاتل فرصة إضافيّة. أن تساوي بين المستعمِر والمستعمَر هو خيانة للعدالة. من هنا، فإنّ معركتنا مع الاستعمار الصهيوني ليست فقط معركة الفلسطينيّ وحده، بل معركة كلّ من يرفض أن يُختَزل الإنسان إلى هدف في مرمى بندقيّة، أو رقم في بيان عسكريّ، أو «أضرار جانبيّة» في «حرب على الإرهاب». العداء ليس شخصيّاً، بل هو عداء مع المشروع، مع الفكر الاستعلائيّ، مع الهيمنة، مع النظام الذي يرى في إبادة شعب «حلّاً نهائيّاً».
سقوط المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ هو الطريق الوحيد إلى السلام لا لسبب إلّا كون هذا المشروع هو الذي يصنع العداء، هو الذي يجعل النكبة مستمرّة، هو الذي يعيث فساداً في المنطقة، هو الذي يقصف ويقتل ويهدّد ويقتل ويدمّر في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن وإيران والعراق والسودان عبر عشرات السنين. وحدها هزيمة هذا المشروع، وأي مشروع شبيه، تُسقط العدائيّة لأنّها تُسقط أسبابها.
وإن كان بعض الأشخاص يمثّلون المشروع أيّما تمثيل في فترة زمنيّة ما بحكم موقعهم، فإنّ كراهية المقاومين هي للمشروع وليس للأشخاص، وحين يسقط المشروع لا كراهية، بل بناء عالم عادل، عالمٍ تُصان فيه الكرامة، وتُحمى فيه الحياة، يعيش فيه الناس بحرّية وكرامة في فلسطين محرّرة من البحر إلى النهر، محرّرة من المشروع الإباديّ ومن إيديولوجيات الاستعلاء العنصريّ.
إذا لم تكن الكلمات سلاحاً في وجه هذه الإبادة، فهي تواطؤ. وإذا لم تكن المواقف منحازة إلى الحقّ، فهي دعمٌ للباطل. فليكن صوتنا، فعلنا، نضالنا، جزءاً من روح المقاومة، تلك التي لا تموت، لأنّها ببساطة: تختار الحياة.
* كاتب وأستاذ جامعي