أسعد أبو خليل
5بين الانتصاريّة والانهزاميّة (3)
بعد اجتياح 1982، غنِمَ العدوّ الكثير من خزائن منظّمة التحرير، واستولى على كميّات هائلة من الأسلحة، والتي فاضت عن حاجاته، فكان يستعملها (بالتنسيق مع الحكومة الأميركيّة) للتوزيع على الميلشيات اليمينيّة والعنصريّة في أفريقيا (جوناس سافيمبي مثلاً) وفي أميركا اللّاتينيّة (ميلشيات الإجرام النيكاراغويّة مثلاً). كما أنّ منظّمة التحرير تركت وراءها عدداً كبيراً من المكاتب المليئة بالوثائق والأوراق الرسميّة.
عرفات كان يحبّ فتْح المكاتب وتضخيم البيروقراطيّة؛ لأنّه كان يوزّع المناصب والأدوار بطريقة تديم من زعامته وتُضعِف من نفوذ خصومه في المنظمة وداخل حركة «فتح». مؤلّف إسرائيلي اسمه رافائيل إسرائيلي، نشر كتاباً بالإنكليزيّة بعنوان «منظّمة التحرير في لبنان» وضمّ وثائق رسميّة لمنظمة التحرير من غنائم اجتياح 1982. بعض الوثائق كانت تحمل أوامر رسميّة بقصف شمال فلسطين أو تحريك قوات عسكريّة. المذهل في الموضوع أنّ عرفات (الذي كان يحبّ التدوين) لم يكترث لوضع توقيعه على أوامر كان مُفترَضاً أن تكون سرّية.
هذا كان نوعاً من الاستهانة بقدرات العدوّ. وكان قادة منظّمة التحرير يتحادثون براحة كلّية على الخطوط الهاتفيّة التي كانت خاضعة لمراقبة مبكّرة من القوات اللّبنانيّة (يعترف واحد من قادة «القوّات» آنذاك أنّ الكثير من أسرار الحركة كانت موجودة في تلك المحادثات الهاتفيّة). والذي يشكّ في مدى استخفاف عرفات بقدرات العدوّ، عليه أن يعود إلى ذلك الخطاب الشهير الذي ألقاه قبل الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982 وفيه يقول «أهلاً وسهلاً بشارون» وكان يعتدّ بحصوله على خطّة الأكورديون التي وضعها العدوّ. ومع كلّ هذا التبجّح لم يكن لعرفات أيّ خطة دفاعيّة أو هجوميّة أو حتى انسحابيّة من الجنوب.
لم يكن ذلك يسري على تجربة حزب الله المبكّرة. إنّ السريّة التامّة التي وسَمت بناء الحزب وصعوده كانت قائمة على ضرورة حماية الحركة الفتيّة من الاختراق ومن أعْين العدوّ وآذانه. يكفي أنّ الناس لسنوات لم تكن تعلم عن اسم الحزب أو عن وجوده. كان هناك عمليّات اغتيال في القرى لعملاء إسرائيليّين مجاهرين. هذا فصْل غير مكتوب عن تلك المرحلة التي شهدت، بعد الاجتياح، ظهور أصوات صهيونيّة في الجنوب وفي داخل الوسط الشيعي. البعض من هؤلاء أنشأ تنظيمات مثل «التجمّع الجنوبي الموحّد». كلّ الأعمال العسكريّة (التي علمنا بها والتي لم نعلم بها) جرت من دون إعلان مسؤوليّة، وأخذ الرصيد من قِبل الصانعين.
الأبرز في تجربة الحزب، والتي شكّلت مصدر قوّة لديه لسنوات طويلة، كان في الاستفادة من تجربة منظّمة التحرير والتعلّم من أخطائها الجسيمة. منظّمة التحرير كانت بعيدة كلّ البعد عن استخلاص الدروس وأخْذ العِبر من التجارب الماضية. يكفي أنّ المقاومة الفلسطينيّة أعادت تكرار أخطاء تجربة الأردن في لبنان. في الحالتَين، بدأت الحركة بالتمتّع برصيد وتأييد شعبي هائل، لكنّه سرعان ما تلاشى أمام حجم الفساد والتجاوزات. منظّمة التحرير كانت ذات شعبيّة في جنوب لبنان، لكنكَ بعد فترة قصيرة من اندلاع حرب السنتَين بدأتَ تلاحظ ابتعاد الناس عن المقاومة. كما في حالة الأردن، لم يكن هناك أيّ انضباط في صفوف الحركة التي تسرّب إليها سارقون ومجرمون ومحكومون.
لكنّ المسؤوليّة تقع على القيادة التي سمحت لظواهر فاسدة بالشيوع والانتشار. أبو الزعيم، الذي كان رمزاً للفساد، أصبح بأمر من عرفات من أبرز القادة الفلسطينيّين، وخصّه عرفات باهتمام خاص، لا بل هو مَن سلّمه ملفّ العلاقة مع لبنان. أبو الزعيم هذا انشقّ عن منظمة التحرير بعد 1982 (بالتنسيق مع النظام الأردني على الأرجح) لكنّ عرفات غفرَ له وعيّنَه في منصب رفيع في الضفّة الغربيّة.
وفتْحُ المكاتب والانفلاش واستخدام مال الثورة لغايات وأغراض شخصيّة (وغير كريمة أو أخلاقيّة) نفّرَ الرأي العام في المناطق التي عملت فيها المقاومة، خصوصاً في الجنوب اللّبناني الذي أصبح -بعد حرب السنتَين- أرضاً خصبة للتحريض ضدّ المقاومة الفلسطينيّة وضدّ الشعب الفلسطيني. ولقد عمل المكتب الثاني بقيادة جوني عبده، بالإضافة إلى المخابرات الإسرائيليّة، على استغلال حالة العداء التي بدأت تنمو بين الشيعة. وكانت العلاقة بين الزعامات التقليديّة (كامل الأسعد وكاظم الخليل) وثيقة الصِّلة مع أحزاب اليمين الطائفي (كامل الأسعد انتقل إلى بلّونة بعد تدخّل الجيش السوري في 1976لأنّه أيّده، وكاظم الخليل كان نائباً لرئيس حزب الوطنيّين الأحرار).
العمل السياسي للحزب أزال القدسيّة والهالة الثوريّة عن المقاومة؛ لأنّ الحزب لم يميّز نفسه بشيء عن الأحزاب التقليديّة في مجلس النوّاب ومجلس الوزراء. بل على العكس، كان حضوره باهتاً وهزيلاً ولم يترك نوّاب الحزب تركة تشريعيّة ذات قيمة يعتدّ بها
ومن غير المنصف تحميل كلّ المسؤوليّة إلى حركة «فتح» وحدها؛ لأنّ باقي التنظيمات كانت شاهدة أو مشاركة في أعمال الفساد (منظمة «الصاعقة» كانت من الأفسد في منظمة التحرير، لكنّها لم تكن وحيدة). صحيح أنّ «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» و«الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين» كانتا تزرعان أخلاقاً ثوريّة في عناصرهما، لكنّ حجم التنظيمات زاد وتضخّم، كما أنّ المال المتدفّق من القيادة العرفاتيّة قلّل من حماس الرغبة في التغيير والإصلاح.
وكانت هناك ظواهر فساد حتى في «الجبهة الشعبيّة»: أبو أحمد يونس (يونس البجيرمي) كان قياديّاً رفيعاً في الجبهة (عضو مكتب سياسي) ومسؤول الأمن فيها. هناك جرائم كثيرة ارتبطت باسم الرجل والجبهة أعدمته من دون تقديم جدول بمرتكباته وارتباطاته (وهو كان مع مجموعة «الجبهة الشعبيّة الثوريّة» التي انشقّت في1972). لم يكن هناك شفافية أو محاسبة أو مكاشفة وحالة غياب الخطّة العسكريّة لتواجد المقاومة في لبنان تسبّب في الترهّل والتراخي الذي أصاب صفوفها.
الغريب أنّ القيادات جميعها لم تُعِدّ خطّة تتحسّب فيها لحالة اجتياح شامل للقضاء على الوجود الفلسطيني في لبنان، خصوصاً أنّه كان هناك فريق لبناني قوي يدعو إلى ذلك. وهذا الفريق كان قد بدأ يكسب في صفوف المسلمين، خصوصاً الشيعة، بدءاً من أواخر السبعينيّات. ليس من تفسير لذلك إلاّ الانتصارية الفائقة التي ظنّت أنّ الاجتياح في 1982 سيتبعه انسحاب تكراراً لحالة اجتياح 1978. لا أستطيع أن أميّز بين الاستعداد العسكري في 1978 و1982إلّا بقاء القديم على حاله.
مكاتب عسكريّة منتشرة وحتى المكاتب الأمنيّة كان لها مكانها المعروف، وأحياناً أعلام التنظيم المعني. ورغم تعرّض الكثير من قادة المقاومة إلى اغتيالات بدءاً من أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات، فقد كان الكثير من قادة المقاومة يسكنون في شقق معروفة (كان أبو الزعيم يقطن في شارع فردان- الشارع نفسه الذي تعرّض فيه قادة المقاومة إلى عمليّات اغتيال كبرى في 1973).
إنّ اللّجوء إلى السرّية التامّة في مرحلة صعود الحزب لم تكن إلّا تجنّباً لأخطاء كارثيّةِ في تجربةِ «فتح» وباقي الفصائل. انتقلت «فتح» من مرحلة العمل السرّي إلى العمل العلني في غضون سنة أو سنتَين فقط بعد إعلان الثورة (عيد «فتح» في يناير 1965، كان عرفات يجول بنفسه على مكاتب الصّحف اللّبنانيّة موزّعاً بيانات الحركة التي كانت تتضمّن إعلاناً للمسؤوليّة عن أعمال معظمها لم يحصل أبداً، أو حصل على مستوى أصغر بكثير من المُعلن).
مرحلة انتقال الحزب من العمل السرّي المُطلق إلى العلني أخذت سنوات. نحو عشر سنوات استغرقت تلك المرحلة بين البداية غير المعلَنة وبين المشاركة في الانتخابات النيابيّة في 1992. هذه المرحلة الطويلة صلّبت عود الحزب وجعلته يتمرّس في العمل الأمني المحترف الذي غاب عن أذهان قيادات المقاومة الفلسطينيّة.
لكنّ العمل السياسي العلني والعمل السرّي ضدّ العدوّ لا يستقيمان. صحيح أنّ الحزب فصل بين القطاعَين، لكنّ ذلك ليس كافياً؛ لأنّ التواصل بين أفراد القطاعَين يفتح ثغرة يستطيع العدوّ أن ينفَذ منها. هذا عدوّ متمرّس في الخداع والتربّص -والأهم- وخرق كلّ الخطوط الحمر على أنواعها ومخالفة المعاهدات والمواثيق والاتفاقيّات. تاريخ الصهيونيّة منذ الثلاثينيّات لا لبْسَ فيه حول أساليبه، هذا عدوّ كان يستعمل لغة الإبهام والتضليل للتعبير عن نواياه وطموحاته: تغيّرت أهدافه المعلَنة من «مأوى وطني» إلى «كومنويلث» إلى دولة في قسم من فلسطين إلى دولة فوق كلّ فلسطين مع ما يحلو لها من اقتطاع لأراضٍ عربيّة مجاورة.
الحزب لم يقع يوماً في فخّ أو ضَلَل الانهزاميّة المدمّرة التي مشى فيها كُثر في اليسار العربي. صادق جلال العظم كان من أكثر الكتّاب العرب راديكاليّةً ويساريّةً، وكان يزايد على كلّ زملائه من المثقّفين الفلسطينيّين: وليد الخالدي وهشام شرابي وغيرهما الكثير. العظم انتهى مهادناً تماماً للصهيونيّة، في عام 1992، عندما سمعتُ أنّه سيلقي محاضرة في الذراع الفكريّة للّوبي الإسرائيلي في واشنطن («معهد واشنطن» سيّئ الذِّكر الذي حاول التقليل من ضحايا غزّة منذ اليوم الأوّل وثبت كذبه بعد ذلك)، هاتفتُه وقلتُ له: أنتَ الذي اتّهمتَ معظم المثقّفين العرب بالعمالة، أنتَ على وشك أن تخاطب اللّوبي الإسرائيلي؟ أنتَ الذي تخصّصت في الكتابة اليساريّة الراديكاليّة؟ أجابني: «لقد انهزمنا، يا أسعد.
اليهود انتصروا» – بالحرف. أقفلتُ الهاتف لكنّه اتصل بي بعد قليل وقال: سيسُرّكَ أن تعلم أنني اعتذرتُ لهم عن الحضور بداعي وعكة صحيّة. قلتُ له: لا، لا يسرّني. كان يجب أن تقول لهم إنّك ضدّ الصهيونيّة بالمطلق، لكن لم تفعل.
لكنّ انفلاش الحزب في العمل السياسي أثقل كاهل الحركة المقاوِمة، ليس فقط من ناحية التحالفات (التي لم تكن ناجحة دائماً باستثناء التحالف مع «أمل» والذي كان عقبة أمام الخطط الصهيونيّة لخردقة الصفّ الشيعي، وكان التحالف مع «التيّار الوطني الحرّ» شديد الفائدة للطرفَين، والذي يتحمّل الحزب مسؤوليّة كبرى عن خسارته، خصوصاً في مرحلة ما قبل الحرب الكبرى بعد «الطوفان»).
العمل السياسي للحزب أزال القدسيّة والهالة الثوريّة عن المقاومة؛ لأنّ الحزب لم يميِّز نفسه بشيء عن الأحزاب التقليديّة في مجلس النوّاب ومجلس الوزراء. بل على العكس. كان حضوره باهتاً وهزيلاً ولم يترك نوّاب الحزب تركة تشريعيّة ذات قيمة يعتدّ بها. التحفّظ عن الثقة في حكومات رفيق الحريري لا يرتقي إلى مرحلة دفْع برنامج اقتصادي ثوري (والبرنامج الاجتماعي الاقتصادي للحزب ليس ثورياً، ولم يكن يوماً كذلك، رغم خطاب مبكّر عن «المستضعفين في الأرض»).
والنزعة الانتصاريّة للحزب كانت ردّاً مباشراً على المناخ الانهزامي الذي ساد بعد 1982. لم يكن هناك من مناصّ من التقليل من خطر العدوّ وقوّته من أجل شحْذ الهمم ورفع المعنويّات. والانتصاريّة عند الحزب في تلك السنوات (الثمانينيات والتسعينيّات) لم تكن استعراضيّة فارغة على الطريقة العرفاتيّة لأنّها كانت مقرونة بعمل دؤوب وصامت لبناء قدرات عسكريّة وأمنيّة لم يسبق لها مثيل من أيّ طرف عربي في الصراع الطويل مع إسرائيل. لكنْ هل زادت الانتصاريّة عن حدّها بعد 2000؟ أو بعد 2006؟ وهل أثّر ذلك على الأداء الأخير للمقاومة؟
(يتبع)
* كاتب عربي