آخر الأخبار

غربال السياسة الأميركية وذاكرة الشعوب

5bc37dc5-e16c-45a4-836c-693b7e527b9c-r6y1n5ty2o8ytqdky0kjmy8mxee8c718xiggw5lqpc

بقلم عصام الحلبي

“الذي يأمَن للأمريكان كالمأمَّن للميّ بالغربال”، مثل شعبي تختصر كلماته حكمة متراكمة وتجربة طويلة مع سياسات أميركية لم تكن يومًا بريئة، لا في نواياها ولا في نتائجها. تمامًا كما لا يحتفظ الغربال بالماء، لا يمكن لأحد أن يركن إلى الوعود الأميركية أو يعلّق مصيره عليها، خاصة عندما يتعلّق الأمر بقضايا التحرّر والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد أثبت التاريخ الحديث، من فلسطين إلى العراق، ومن لبنان إلى أفغانستان، أن السياسة الأميركية لا تُبنى على المبادئ، بل على المصالح، وأن حركتها لا تنبع من مناصرة المظلوم، بل من ترجيح كفّة الأقوى. كل من استند إلى واشنطن في معركته، خرج بخيبة وندم، كمن يحاول أن يجمع الماء في غربال مثقوب.

منذ عقود، قدّمت الإدارات الأميركية المتعاقبة نفسها كوسيط نزيه أو كضامن للسلام، لكن الواقع أثبت أنها كانت شريكًا في الاحتلال وداعما، أو على الأقل، صامتًا على جرائمه. في فلسطين مثلًا، لم تكن أميركا فقط داعمًا ثابتًا لإسرائيل، بل كانت أيضًا مانعًا فعليًا لأي تحرك دولي يفرض عليها التراجع أو المحاسبة.

وهنا يتجلى بُعد الحكمة الشعبية: فالمثل لا يُعبّر عن عفوية لغوية، بل عن وعي جماعي صاغته تجارب متكررة من الخذلان. هو أشبه بجهاز إنذار شعبي، يذكّرنا بأن الثقة العمياء في قوة عظمى كأمريكا لا ترى فينا إلا ورقة تفاوض أو موقع نفوذ، هي ضربٌ من السذاجة السياسية.

ولعلّ ما جرى مؤخرًا في غزة بعد المجازر التي طالت المدنيين في وضح النهار، يقدّم برهانًا إضافيًا. فبينما كانت الآلة العسكرية تحصد الأرواح وتقتل، لم تتجاوز المواقف الأميركية حدود “القلق”، وكأن الدم العربي لا يُستحق أكثر من بيان باهت ومؤتمرات صحفية تتفنّن في قلب الضحية إلى متّهم.

إن الشعوب لا تنسى من خذلها. فهي تحفظ التجارب المرّة كما تحفظ المواقف النبيلة. وعندما تردّد هذا المثل، فهي لا تمزح، بل تذكّر الجميع بحقائق مجرّبة. من الخطأ أن نكرّر الثقة بمن لم يكن يومًا صادقًا، أو نُسلم أمورنا لمن لا يرى فينا إلا مصلحة عابرة.

ومن يظن أن الأميركيين سيحمونه أو ينصفونه، كمن يعطي مفتاح بيته لشخص لا يعرفه، ثم يُفاجأ أن البيت قد ضاع.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة