تحت شمسٍ لا ترحم، وبين خيامٍ مهترئة تفترش التراب وتلاصق مياه الصرف الصحي، يكبر أطفال غزة بلا طفولة وسط حرب إبادة جماعية يشنها الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 22 شهرًا.
في مواصي خان يونس جنوب القطاع، حيث امتدت رقعة النزوح كأنها لا نهاية لها، تحولت الأرض إلى مسرح مفتوح للبؤس، لا مدارس، لا ألعاب، لا أمان، فقط صراخ القصف، وصمت العالم.
ما بناموش من الخوف
“ما بناموش من الخوف”، تقول مريم سليم، وهي أم لثلاثة أطفال نزحت من بيت حانون قبل أشهر، تضيف لمراسلنا: “كل يوم نضطر نطمنهم إنه الانفجار بعيد، بس الحقيقة إنّه ولا شي بعيد عنا بهالبلد”.
في أحد زوايا المخيم، كان الطفل عادل (6 أعوام) يلعب بالرمل كأنه يصنع عالمًا آخر لا يشبه هذه الأرض.
بجانبه كانت أمه، نجلاء خليل، تحاول أن تسرّح شعر شقيقته الصغيرة بمشط مكسور. تقول: “من زمان ما تحمموا، ميّه ما في، وصابون ما ظلّ، كيف بدنا نحميهم من الأمراض؟”.
الخيام لم تكن يومًا بيوتًا، ومع طول الحرب، صارت سكنًا دائمًا لمن فرّوا من منازلهم تحت نيران القصف. لكن هذا “الملجأ” لا يقي من حرّ الصيف، ولا من برد الليل. داخل الخيمة، تفترش العائلة بطانيات بالية، وتقتات على وجبة واحدة، بالكاد تسد الرمق.
تقول نجلاء: “بعض الأيام ما في شي ناكله غير خبز يابس.. والولاد جاعوا، بس أكتر من الجوع خايفة على مستقبلهم”.
أرقام تقطع القلب
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر 2023، قتلت اسرائيل أكثر من 61 ألف فلسطيني، بينهم ما لا يقل عن 18 ألف طفل، في واحدة من أكثر الحروب دموية في العصر الحديث، هذا الرقم لا يختزل حجم الفاجعة، بل يصرخ بها.
لكنّ المأساة لا تتوقف عند القتل المباشر، فهناك أكثر من 100 ألف طفل اليوم في غزة مهددون بخطر سوء التغذية الحاد، بحسب منظمات دولية، ونتيجة الحصار والدمار ونقص المساعدات، فقد توفي 103أطفال بسبب المجاعة، بصمت، دون أن تصل إليهم يد أو دواء.
مدارس تحوّلت إلى ملاجئ
منذ بداية العدوان، باتت المدارس أماكن للاحتماء من الموت بدلًا من أن تكون مراكز للعلم، توقف التعليم تمامًا، وأصبحت الحقائب المدرسية تُستخدم لنقل الطعام أو الملابس القليلة التي حملها النازحون معهم.
تقول أم حازم، وهي جدة في الستين من عمرها: “كنت أجهز دفاتر وأقلام لأحفادي بداية العام.. اليوم عم يشتروا دفاتر بس ليلفوا فيها خبز أو ينقلوا ميّه”.
وبحسب أطباء يعملون مع فرق تطوعية، فإنّ الوضع الصحي في المخيمات يهدد حياة مئات الأطفال. “الأمراض الجلدية، الإسهال، والتهابات العين صارت شائعة بشكل مخيف”، يوضح الطبيب هاني أبو زيد، “المعابر مغلقة، والدواء ممنوع.. حتى خافض الحرارة صار نادر”.
طفولة سرقها كل شيء
ما من شيء يذكّر بالطفولة هنا. لا حلوى، لا دفء، لا شعور بالطمأنينة. تروي سمية، أم لولدين، كيف تبدّلت حياة أطفالها: “قبل الحرب كانوا يحضّروا للمدرسة، يلعبوا في الحارة، يضحكوا.. اليوم بس بدهم يضلوا عايشين ليوم بكرة”.
وتتابع: “كل ليلة عندنا قصة رعب جديدة، مش بس من القصف.. من الجرذان، من الحشرات، من الحر، من الجوع، ومن الخوف على بكرا”.
في أحد أركان المخيم، وقف سامر (9 سنوات) يتأمل السماء وهو يحمل قنينة ماء بلاستيكية نصف فارغة، سأل بصوت خافت: “إيمتى بنرجع على بيتنا؟”.. لا أحد يعرف الجواب.