آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [15]

212

أسعد أبو خليل

الطُّوفان والحزب

ستُكتب مجلّدات وموسوعات عن «طوفان الأقصى» وسيتجادل المؤرّخون والناشطون والسياسيّون حول صوابيّة أو كارثيّة قرار السنوار. والنتائج تحتاج إلى سنوات لقياسها وتقييمها، ولكن نكبة «الطوفان» لا يمكن مقارنتها بالنكبة الأولى ـــــــ على فداحتها ــــــ وهي أدّت إلى خسارة فلسطين التاريخيّة. بالنسبة إلى الحزب، كان «الطوفان» ظُلماً له لأنّه هبط عليه من دون تحضّر أو تنبّه أو إشارة أو تنسيق.

قرار السنوار كان ملكه وحده، وهذا دليل آخر أنّ حلفاء إيران (حماس وحزب الله تحديداً) لا يتحرّكون مثل عملاء إسرائيل وأميركا والخليج في المنطقة: أي بأمر لا يُردّ وطاعة عمياء. «حماس» شنّت «الطوفان» من دون تنسيق مع إيران، والحزب شنَّ حرب الإسناد من دون موافقة إيران (لاحظَ عبد الله بو حبيب خلال زياراته إلى الأمم المتّحدة ولقاءاته مع المسؤولين الإيرانيّين أنّهم لم يكونوا على عِلم بمواقف الحزب عندما تستجدّ بما فيها قرار الموافقة على «وقْف الأعمال العدائيّة»).

لا نعلم أسباب احتفاظ السنوار بقرار سرّية العمليّة المُطلقة. الاختراق الذي حلّ بالحزب وبإيران، والذي ظهر للعيان في الحرب الأخيرة، يشير إلى أنّ السنوار حصّنَ وضعه الأمني والاستخباراتي في داخل غزة ولكنّه لم يستطع أن يضمن التحصين الأمني لحلفائه خارج فلسطين. قد يكون خشيَ أن يضغط عليه الحلفاء للرجوع عن قراره، ولعلّه خشي من اتّساع نطاق دائرة القرار، ما كان قد تسبّب في تسريب الخبر للأعداء. حتى قيادة «حماس» في الخارج لم تكن على اطّلاع على قرار السنوار.

السنوار بنى وحصّن التنظيم وطارد عملاء إسرائيل بنفسه وقتلهم واحداً واحداً (وعملاء إسرائيل وعملاء فتح يتقاطعون في الغالب). لكن لماذا شنّ السنوار «الطوفان» وهل أنّ التقييم يتغيّر عندما نحسبه مع الأخذ في الحسبان كلّ مضاعفاته الإقليميّة والتي لم تتوقّف بعد؟ هل يمكن حساب القرار من دون عِلم بآلية صنْع القرار عند السنوار؟ هل أخضع الفكرة لحسابات الربح والخسارة وهل تناقش مع آخرين بالقرار الأحادي الجانب؟ الأكيد أنّ السنوار استطاع أن يحضّر للعمليّة على امتداد شهور طويلة وخضع مقاتلو «حماس» الأشداء إلى تدريبات قاسية ومضنية لضمان النجاح العسكري فيها، ولكن هل يكفي ذلك؟

كان وديع حداد قريباً جدّاً من غسان كنفاني وكان يستمع إليه (كما كان يستمع أيضاً إلى وليد الخالدي في مرحلة حركة القوميّين العرب) ويسأله عن الوضع الإقليمي والعالمي وعن تحليلات الصحافة العالميّة. من كان يسأل السنوارُ في هذا الصدد؟ هل كانت حركته أضيَق من أن تضع المشروع في سياق الوضع السياسي الإقليمي والعالمي؟

يمكن قبل الدخول في موضوع تعامل الحزب مع «الطوفان» أن نقيّم حجج السنوار في «الطوفان» والحجج المضادّة لمناقشة دور الحزب في سياق الإقليم. ممكنٌ أنّ السنوار حاججَ من منظوره بضرورة كسْر حصار غزّة الخانق، معتبراً أن:
أوّلاً، أثبتت الوسائل السِّلمية عُقمها بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. لم يعد العالم العربي أو الغربي يلتفت إلى معاناة أهل غزّة، لا بل إنّ السيسي بات أكبر مُعين للحُكم الصهيوني في تشديد الخناق على أهل غزّة.

زها نظامه أنّ آلافاً من الأنفاق تم تدميرها، وكان يتلقّى مقابل تعاونه استمرار المعونات الأميركيّة (ثمن كامب ديفيد) بالإضافة إلى تغطية سياسيّة من اللّوبي الإسرائيلي لجرائم النظام وخرْقه لحقوق الإنسان. الديكتاتوريات العربيّة تستطيع (كلّها من دون استثناء) أن تتلقّى الرضى الأميركي لو هي التزمت بمصلحة إسرائيل. حتى النظام الجزائري والتونسي: لم يشذّا عن إجماع التواطؤ العربي الرسمي (ويمكن أن نُضيف الشعبي، إذ إنّ الصمت والسكينة باتا تواطؤاً مفضوحاً).

أهل غزّة (وحماس) جرّبوا أسلوب الاحتجاجات السِّلمية قبل بضع سنوات من «الطوفان» ولكنّ جيش العدوّ قابل سلميّتهم بالرصاص. هذا دَيدن العدوّ بالنسبة إلى النِّضال السِّلمي الذي يحبّذه فؤاد السنيورة ومحمود عباس ونوّاف سلام. مبارك عوض (القس الأميركي-الفلسطيني) عاد إلى بلاده في الثمانينيات وأسّس في القدس مركزاً لنشر اللّاعنف، فما كان من حكومة العدوّ إلّا أن اتهمته بالإرهاب وطردته من بلاده.

ثانياً، لم يعد أهل غزّة وقيادة «حماس» مقتنعين أنّ حُكم التخاذل والعمالة في رام الله يكترث لمعاناة أهل غزّة، لا بل إنّ محمود عباس وباقي أفراد العصابة يتعاونون مع العدوّ لمطاردة المقاومين وَقتْلهم (بحُكم اتّفاق أوسلو). كلّ التوغّلات الوحشيّة الإسرائيليّة في الضفّة تجري بالتنسيق مع محمود عبّاس حتى لو أدّت إلى قتْل عناصر من حركة «فتح» (العمالة لا حدود لها عندما تؤطَّر في اتّفاقيات على غرار اتّفاقيّة 17 أيّار أو ورقة براك الأخيرة).

ثالثاً، ربما راودت السنوار فكرة كسْر الحصار الإعلامي. لم تعد القضيّة الفلسطينيّة تحتلّ موقع الصدارة، لا في الإعلام الغربي ولا في الإعلام العربي. انتقل الإعلام العربي إلى مواضيع أخرى: الرياضة والجنس والترفيه الفني وبرامج صرْف الأنظار عن اهتمامات الشعب العربي وحاجاته. نجح الإعلام الخليجي في تغيير الوعي العربي. هذا هو التفسير الوحيد لحالة الصمت التي لا تزال تعتري الشباب العربي بالنسبة إلى غزّة.

ما معنى أن يكون هناك استفظاع في مدينتي في كاليفورنيا أكثر من كلّ العواصم العربيّة ــــــ باستثناء المثال اليمني الساطع؟ السنوار تعلّم على الأرجح من تجربة السبعينيّات، وكيف أنّ «العمليّات الخارجيّة» (على سوء الكثير منها) عزّزت الاهتمام العالمي بالقضيّة وزرعت الاسم الفلسطيني في العقل البشري، ولكنّ ذلك تصاحب مع وصْم الفلسطيني بالإرهاب، بناء على خطّة إسرائيليّة استفادت من سوء التخطيط والتنفيذ لعدد من العمليّات التي أتت تعبيراً عن عجز، لا بل فشل، مشروع العمل العسكري المقاوم لمنظمة التحرير الفلسطينيّة وبكلّ فصائلها (الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين صرفت النظر عن العمليات هذه في 1971 بناء على قراءة حساب الربح والخسارة).

رابعاً، تبيّن للسنوار أنّ النظام العربي الرسمي تخلّى بالكامل عن خطّة السلام العربيّة (وهي خطّة صهيونيّة المنشأ والصياغة والمقصد وعبّرت عن موقف اليمين الإسرائيلي لا أقصى أقصى اليمين الذي يتمثّل في الحُكم. كما إنّ نتنياهو الذي جاهر أخيراً بمعارضته القاطعة لفكرة الدولتَين وإيمانه برؤية إسرائيل الكبرى فضح كذب الحكومات العربيّة التي روّجت لخطّة السلام العربيّة بناء على القبول الإسرائيلي -أي نتنياهو- بها) علِم السنوار أنّ السعوديّة مُقْدِمة على التطبيع الكامل والشامل مع إسرائيل مقابل وعْد لفظي بالتفكير في حلّ الدولتَين.

أصبح الشعب الفلسطيني متروكاً لوحده أكثر من أيّ وقت مضى في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. استقالت الجامعة العربيّة رسميّاً من الصراع وأصبح كلّ نظام عربي متفرّغاً لمهمة إسعاد أميركا. وتتعزّز نظرة السنوار بالمراجعة عندما تدرسُ مواقف الدول العربية جمعاء من حرب الإبادة. حتى الجزائر كانت تنسّق مع الوفد الأميركي في الأمم المتحدة قبل تقديم مشاريع هزيلة جدّاً لا تزعج اللّوبي الإسرائيلي.

والنظام القطري الذي رعى حماس في الماضي (لكنْ بالنيابة عن الحكومة الأميركية لتدجينها كما اعترف مسؤول ديموقراطي كبير في الكونغرس لصديق عزيز) أثبت على مرّ نحو سنتَين من حرب الإبادة أنّه أكثر التزاماً (في المفاوضات الجارية لوقف النار) للمصالح الأميركيّة منه للمصالح الفلسطينيّة. كان يمكن له أن يجاهر بمسؤولية إسرائيل وتبرئة الموقف الفلسطيني. السنوار أراد كسْر المسار الإبراهيمي النامي الذي يُراد له أن يشمل كلّ الدول العربيّة (كانت هذه سياسة ترامب كما سياسة بايدن بعده).

خامساً، فقد السنوار الأمل من إمكانية توحيد الفصائل الفلسطينية وبلورة عمل فلسطيني وطني مشترك. رغم كلّ النيّات الحسنة التي أظهرتها حماس، بقيت عصابة السلطة في رام الله خاضعة لإرادة اللّوبي الإسرائيلي وهي قبلت بوحدة الفصائل تحت أجندة أوسلو: أي إنّ على كلّ الفصائل أن تقبل بمسلّمات أوسلو الصهيونية، والتي حاول عرفات في أيامه الأخيرة الانقلاب عليها قبل قتْله (بتواطؤ على الأرجح من شلّة رشيد وعباس ودحلان).

حاولت «حماس» أن تتوافق مع «فتح» (وهي اليوم جهاز من أجهزة أمن إسرائيل وأميركا) للانضمام إلى منظمة التحرير وبحصّة متواضعة (لأنّ «فتح» تصرّ على الحفاظ على الحجم الذي كانت عليه «فتح» في المنظمة في السبعينيات) ولكنّ «فتح» استعملت اللّيونة الحمساويّة كدليل ضعف وأمعنت في فرْض شروط تعجيزية بغية تحقيق نزْع السلاح الفلسطيني الذي تبغاه إسرائيل.

سادساً، لم يعد سراب «مسيرة السلام» موجوداً. منذ إدارة أوباما الأخيرة، تخلّت الإدارات الأميركية عن وهْم سراب مسيرة السلام لأنّ الإدارة الأميركية اقتنعت بوجهة النظر الإسرائيليّة أنّ فلسطين لم تعد قضيّة عربيّة. وهذه الفرضيّة أثبتت صحّتها بعد مرور كلّ هذه الأشهر الطويلة على الهولوكست وإصرار النظام العربي الرسمي على التغاضي والتجاهل، مع إصدارات لفظيّة بين حين وآخر. وليس هناك من حكومة عربيّة طالبت رسميّاً أميركا بفعل شيء من أجل فلسطين.

كان هناك دعوات استعطاف في بداية الحرب وحتى هذه توقّفت. السنوار أراد إعادة فلسطين إلى دائرة الحدث والاهتمام والتغطية. ثمن الإعادة موضوع للقسم الثاني من هذه المناظرة، كما إنّ التاريخ قد يحكم ضدّه أو عليه، وأكثر من الآن بناء على المحصّلة النهائيّة لهذه الحرب ومآل المشروع الصهيوني.

سابعاً، قد يكون السنوار قد يئِس من حالة الركود التي أصابت المحور الذي ينتمي إليه. إيران باتت منشغلة بالملفّات الداخليّة نتيجة التغيير في مزاج الرأي العام الإيراني الذي ابتعد عن سياسات المقاومة. وما هزيمة مرشح الحرس الثوري في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة إلّا دليل على ذلك. والحزب كان مطمئناً إلى وضعه بسبب توازن الرعب العظيم ــــــ الذي لم يسبق أحدٌ الحزبَ إليه ــــــ ولا أيّ جيش عربي.

والحزب كان على حقّ في أنّه أراد من أهله في الجنوب وسائر لبنان أن ينعموا بالسِّلم خصوصاً بعد الانهيار الاقتصادي. النظام السوري كان يتقرّب من عاصمة التطبيع الإبراهيمي في الإمارات ويفتعل التوتّرات مع عناصر في المحور. لم يكن السنوار يحلم بالتمرّد على المحور ولكنّه ربما حلمَ بتحريك المحور، أو ربّما بتوريطه. والحفاظ على سرّ إطلاق «الطوفان» دليل.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة