هداية محمد التتر
نساء بلا معيل ولا سند، بلا دخل ولا مال، يواجهن جوع أطفالهن بالصبر والبكاء بصمت، تقهرهن رؤية أطفالهن للطعام في أيدي الجوار، بينما يتضورون جوعاً لعدم توفر ما يسكت قرقرة بطونهم.
المجاعة مستمرة
على مشارف شاطئ بحر غزة، نصبت خيمة أكلت الشمس أقمشتها، وأحرقت وجوه المقيمين فيها، وفي ساحة صغيرة أمامها تجلس أم وسيم (44 عاماً) تطهو العدس لصغارها، وتقول لـ«الأخبار»: «يظن البعض أن المجاعة انتهت بسماح الاحتلال الإسرائيلي لبعض التجار بإدخال البضائع التي لا تسمن ولا تغني من جوع»، مؤكدة أنه «لازالت المجاعة مستمرة في بيتي الذي يخلو من كل شيء سوى حفنة من الدقيق تصدق به علينا جارنا في الخيمة المجاورة، والقليل من العدس».
وتتساءل أم وسيم، التي نزحت بعدما دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي منزلها في منطقة التوام شمال قطاع غزة، أن «كيف لي أن أشتري الدقيق والسكر ولا يوجد لدي أي مصدر دخل بعدما فقد زوجي الشهيد عمله في إحدى المطاعم التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي مذ بدأت الحرب؟»، وأوضحت أنها كانت تعتاش طوال أيام الحرب على المساعدات والتكيات، «أما الآن، وعلى الرغم من دخول البضائع إلا أنني لا أقوى على شرائها بهذا السعر»، مناشدة أهل الخير بالعمل على مساعدة الأرامل والأيتام والوقوف إلى جانبهم.
-
لم تنته المجاعة بسماح الاحتلال الإسرائيلي لبعض التجار بإدخال البضائع (أ ف ب)
وفي آخر إحصائيات لحرب الإبادة الجماعية المستمرة على قطاع غزة، قال المكتب الإعلامي الحكومي، أن عدد النساء اللواتي استشهد أزواجن خلال الحرب فاق 16646 امرأة، واللاتي لا يجدن اليوم من يقف معهن ولا يعينهن على رعاية أطفالهن في ظل شح المواد الغذائية وارتفاع نسبة عمولة سحب الأموال نقداً لتصل إلى ما يقرب من النصف.
بكاء العاجز من دماء
وفي طريق عودة الغزيين الذين خاضوا معركة الحصول على كيس الدقيق وسَلموا من رصاص دبابات وقناصة الاحتلال الإسرائيلي بمنطقة زيكيم، تحمل أم محمد (33 عاماً) كيساً صغيراً وتمد يدها على استحياء إلى أحدهم كي يضع لها حفنة من الدقيق تطعم فيه صغارها، وتشكو لـ«الأخبار»: «لم أتخيل يوماً من الأيام أن أكون في هذا الموقف، استشهد زوجي وتركني وحدي أكابد مرارة الجوع والحرمان»، وتضيف «ليتني أنا من استشهد وليس هو، على الأقل كان باستطاعته التوجه إلى مراكز المساعدات ليحصل على ما يطعم به أطفالنا».
وبعيون تذرف منها الدموع، تصف الثلاثينية لحظات العجز التي تعيشها لعدم قدرتها على توفير ما يسكن أمعاء صغارها بالقول: «إلحاح أطفالي الصغار اضطرني للمخاطرة بحياتي والذهاب إلى مراكز المساعدات، ولكنني عدت خاوية الوفاض».
-
يعتاش البعض طوال أيام الحرب على المساعدات والتكيات (أ ف ب)
إلا أن قرقرة بطون صغارها دفعتها للإصرار على العودة ولو بحفنة صغيرة من الطحين «وكما ترين ها أنا ذا أحاول مع من أكرمه الله بالحصول على كيس الدقيق أن يعطيني ولو كيلو واحد أخفف فيه من جوع صغاري».
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ 22 شهراً، مشهراً سيفاً آخر من سيوف الإبادة ألا وهو التجويع لسكان القطاع والذي أودى بحياة ما يزيد عن 235 شهيداً بينهم 106 أطفال و 129 بالغاً، وفقاً للبيان الصادر عن المكتب الإعلامي الحكومي.
سوء تغذية حاد
وتشكو شيرين صافي من شمال قطاع غزة والتي نزحت إلى مدرسة حليمة السعدية في منطقة جباليا البلد، سوء حالها بعدما فقدت زوجها في حرب الإبادة، قائلة «لم يكن زوجي موظف حكومي أو في قطاع خاص، بل كان يعمل في أحد المحال التجارية ويتقاضى أجره يومياً»، وتضيف «كنت في جنوب القطاع أبيع على بسطة صغيرة الدقيق وبعض المواد التموينية، بينما في هذه المجاعة لم يكن يتوفر أي شيء كي نأكله وليس من أن نبيعه».
وتوضح الأربعينية، وهي في طريقها إلى المشفى، أنها تعيش وأطفالها على وجبة واحدة من العدس و«النوم هو السبيل الوحيد للهروب من الجوع الذي يؤلم القلوب قبل البطون»، وتقول وهي تشير إلى طفلتها «تعاني ميس من سوء تغذية حاد ولا أستطيع توفير المغذيات التي تُقوّم جسدها على الرغم من دخول بعض البضائع، فالأسعار مرتفعة ولا يوجد لا لحوم ولا خضار ولا الفواكه، كما إنه لا يوجد مصدر دخل كي أشتري شيء، فالطحين لازال سعر الكيلو منه بسعر كيس الدقيق في الوضع الطبيعي».
-
النوم هو السبيل الوحيد للهروب من الجوع الذي يؤلم القلوب قبل البطون (أ ف ب)
وتقول ميرفت عماد من حي الشجاعية والتي تقيم في خيمة بحي تل الهوى «حاولت الذهاب إلى منطقة النابلسي من أجل إحضار كيس الدقيق لأبنائي الذين يبكون ليل نهار من الجوع، يوقظني طفلي من النوم كي أعد له الخبز، تسألني ابنتي الأخرى وهي تنظر إلى ما في أيدي صغار الجيران، متى سيعود أبي ويحضر لنا الطحين كي نأكل الخبز مثلهم».
وتشير إلى أن كلمات صغارها تقتلها وتدفعها بعيداً عنهم لتذرف دموع انكسارها وعجزها عن تلبية مطالبهم، وتلفت إلى أن طفلتها تعاني من نقص حاد في الهيموجلوبين في الدم والذي وصل إلى 8%، بينما يعاني طفلها يوسف من دوار وآلام متواصلة في الرأس، شخصها الطبيب بأنها نتيجة لسوء التغذية، وتتساءل: «ماذا عساي أن أفعل أمام هذا الحال وهذه المعاناة؟»، داعية «أصحاب الضمائر الحية، انظروا إلى حالنا، وقفوا معنا، أوقفوا الحرب أوقفوا الإبادة».
وعلى الرغم من دخول البضائع التجارية إلا أنها ليست في متناول اليد في ظل انعدام الدخل ووصول نسبة البطالة في قطاع غزة إلى ما يقرب من 90%، بينما تصل نسبة الفقر إلى 99%، نتيجة الحصار الخانق الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 5 أشهر، ما جعل مليون وأربعمائة ألف غزي يعيشون مجاعة كارثية وفقاً لمراحل الأمن الغذائي العالمي، لتقف النساء الأرامل وهن عاجزات أمام جوع صغارهن لا يقوون على توفير ما يسد رمقهم أو يهدئ من قرقرة بطونهم.