وكالة القدس للأنباء
تعيش الضفة الغربية واحدة من أخطر الفترات وأكثرها تعقيداً في تاريخها الحديث؛ إذ تتقاطع فيها التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما يجعلها بؤرة لصراعات متعددة الأبعاد. وتتكامل، في هذا السياق، عوامل داخلية تتمثّل في الانقسام السياسي الفلسطيني المزمن، وضعف المؤسّسات الرسمية، مع عوامل إقليمية تتعلق بتغيّر مواقف عدد من الدول العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، وأخرى دولية مرتبطة بالانحياز الواضح من جانب القوى الكبرى لصالح الاحتلال “الإسرائيلي”، ما يتيح ل”إسرائيل” فرض واقع جديد يرتكز على تكثيف سياسة الضم والاستيطان، ومحاولة طمس الهوية الفلسطينية، وإضعاف الحقوق التاريخية والقانونية للشعب الفلسطيني.
وفي المقابل، شهدت الساحة السياسية “الإسرائيلية” تحولات جذرية في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع صعود قوى اليمين المتطرف ووصولها إلى مراكز القرار العليا. ومع تولّي شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير مناصب وزارية بارزة في حكومة بنيامين نتنياهو، باتت السياسات “الإسرائيلية” تجاه الضفة الغربية أكثر تشدّداً وعنفاً، وذات طابع أيديولوجي يميني ديني متطرف، يستهدف بشكل رئيسي تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، وتكريس السيطرة المطلقة على الأراضي المحتلة.
ويمثّل وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، على وجه الخصوص، محوراً رئيسياً في رسم سياسات الاحتلال تجاه الضفة، وذلك من خلال تحالفه الوثيق مع نتنياهو، ووضعه أجندة واضحة تهدف إلى تحويل الضفة إلى ساحة مواجهة دائمة، عبر تعزيز الاستيطان فيها، وتوسيع نطاق القمع ضد فلسطينييها، ضمن رؤية «صهيونية دينية» عنوانها أن السيطرة على كامل الضفة جزءٌ من مشروع ما يسمّى «أرض إسرائيل الكبرى». ولا تقف هذه الرؤية عند حدود السيطرة العسكرية فحسب، بل تتجاوزها إلى إحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية واسعة على الأرض، تجعل من المستحيل إعادة الوضع إلى ما كان عليه، حتى في حال الوصول إلى تسوية سياسية مستقبلية.
على أن هذا التصعيد “الإسرائيلي” لم يأتِ من فراغ، بل يشكّل امتداداً لسياسات طويلة المدى تعتمدها “إسرائيل” منذ عقود، تهدف إلى فرض حقائق ميدانية جديدة في الضفة، وتشمل مصادرة أراضٍ واسعة، وتسريع وتيرة توسيع المستوطنات القائمة، إضافة إلى تطوير البنية التحتية الاستيطانية، وشرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية. كما تترافق هذه السياسات مع إجراءات قمعية مستمرة تستهدف إضعاف الفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل، من مثل هدم المنازل وسحب تصاريح البناء وتشديد الحصار الاقتصادي والأمني. وتأتي تلك الإجراءات في سياق استراتيجية متكاملة تستهدف تقسيم الضفة إلى «كانتونات» معزولة بعضها عن بعض، بما يجعل إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً أمراً شبه مستحيل.
وفي هذا السياق، مثّل الدعم الأميركي ل”إسرائيل” أحد العوامل المحورية التي مكّنت حكومة نتنياهو من التمادي في سياساتها الاستيطانية والتوسعية، خصوصاً منذ إعلان الإدارة الأميركية السابقة بقيادة دونالد ترامب عن «صفقة القرن»، والتي جعلت الولايات المتحدة شريكاً مباشراً في عملية فرض الحقائق على الأرض. وقد استمر ذلك المسار في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، وتعزّز مجدداً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، حيث توفّر الولايات المتحدة دعماً دبلوماسياً وعسكرياً ومالياً سخياً ل”إسرائيل”، ما منح الأخيرة القدرة على تنفيذ مخططاتها من دون خشية من عقوبات أو ضغوط دولية جادّة.
في المقابل، تشهد الجبهة الداخلية الفلسطينية انقساماً سياسياً عميقاً بين حركتي «فتح» و«حماس»، أدّى إلى استمرار وجود إدارتين منفصلتين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهو انقسام لم يعد مجرد خلاف سياسي محدود، بل أصبح أزمة شاملة ألقت بظلالها الثقيلة على الواقع الفلسطيني، وأثّرت بشكل كبير على قدرة الفلسطينيين على التصدي لمخططات الاحتلال. وإذ أدّى تصاعد الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على قطاع غزة إلى فتح الباب على مصراعيه أمام طرح إدارة القطاع من قبل سلطة رام الله، والتي باتت تُقدّم كخيار بديل لـ«حماس» في غزة، فقد منح ذلك رئيس السلطة، محمود عباس، شعوراً بفائض القوة تجاه الفصائل الأخرى.
ومما يجدر التنبيه إليه، هنا، هو أن الخيار المشار إليه يحمل بحد ذاته مخاطر عديدة، خصوصاً في ظل تراجع نفوذ السلطة في الضفة ذاتها، وتصاعد عمليات الاحتلال وتوسّع الاستيطان، والترهل الإداري والفساد داخل المؤسسات الفلسطينية، وتزايد المطالبات العربية والدولية بإجراء إصلاحات جذرية في بنية السلطة، بعضها يطاول عباس نفسه ودائرة المقرّبين منه.
كما يشكّل تراجع ثقة الفلسطينيين بقيادتهم السياسية، وتحديداً عباس وفريقه، عاملاً إضافياً يعمّق من الأزمة الداخلية الفلسطينية. ويرجع فقدان هذه الثقة إلى الاتهامات المستمرة بالفساد المالي والإداري، وغياب الشفافية والمساءلة داخل المؤسسات، فضلاً عن افتقار القيادة إلى رؤية استراتيجية قادرة على توحيد الشعب في مواجهة المخاطر القائمة. وتلعب الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة في الضفة، أيضاً – وعلى رأسها ارتفاع نسب الفقر والبطالة وتراجع فرص العمل -، دوراً كبيراً في تعميق تلك الأزمة؛ إذ يرى كثير من الفلسطينيين أن الفشل الاقتصادي والسياسي للسلطة أضعف الموقف الفلسطيني محلياً وإقليمياً ودولياً.
وفي ظل هذه الظروف، تجد السلطة نفسها اليوم أمام خيارين صعبين: إما مواجهة تحديات وجودية قد تؤدي إلى تفككها، أو القبول بواقع استمرار تآكل سلطتها وتحوّلها إلى إدارة محلية وفق المقاسات والشروط “الإسرائيلية”، التي تزداد ضيقاً وشراهة، في ظل توسّع الاستيطان واشتداد وتيرة العدوان على مدن الضفة وبلداتها ومخيماتها.