رمزي عوض
سيبقى ياسر عرفات (ابو عمار)، رغم تباين المواقف من سياساته، رمز الهوية الوطنية الفلسطينية ومؤسس الكيان السياسي الفلسطيني الحديث، فقد جسّد تحوّل الفلسطيني من حالة لجوء إلى مشروع تحرر وطني يسعى لبناء دولة مستقلة، سواء اتفقت الاطراف السياسية، مع خياراته أم اختلفت.
فعرفات شكّل المعادلة التي جمعت النقيضين: الثورة والدولة، البندقية وغصن الزيتون، الهوية والمشروع الوطني، لم يكن رمزًا بسبب الكمال السياسي أو خياراته السياسية الخالية من الانتقاد، بل لأنه جسّد الإرادة الجماعية الفلسطينية في الوجود والاستمرار.
وُلد ياسر عرفات (محمد عبد الرؤوف القدوة الحسيني) في القدس أو القاهرة بحسب مراجع مختلفة، عام 1929، وتخرّج من كلية الهندسة المدنية بجامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حاليا، سنة 1956، تزامنت نشأته مع التحولات الكبرى في العالم العربي بعد النكبة عام 1948، ما دفعه إلى الانخراط في اتحاد طلاب فلسطين في القاهرة، حيث بدأ وعيه السياسي بالتشكل حول فكرة “التمثيل الذاتي للشعب الفلسطيني”، لأن التجربة العربية مع القضية الفلسطينية بعد 1948 أثبتت لجيل عرفات أن أحدًا لن يحمل المشروع الفلسطيني سواه، وكان لدى أبو عمار هاجس منذ اتحاد الطلاب الفلسطيني، أن غياب التنظيم الفلسطيني المستقل سمح بتهميش القضية، فتبنى فكرة بناء كيان قيادي مستقل عن الأنظمة العربية.
في عام 1959 أسّس عرفات، مع خليل الوزير وصلاح خلف، حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في الكويت، حيث رفعت الحركة شعار “الكفاح المسلح لتحرير فلسطين”، وبدأت تنفيذ عملياتها العسكرية عام 1965، لتصبح أول حركة فلسطينية تُبادر بالعمل المسلح خارج الوصاية العربية.
وقد انتقل عرفات من العمل السياسي إلى العمل الفدائي المسلح، لأنه أدرك أن الخطاب السياسي وحده لم يغيّر واقع النكبة، وأنّ الكفاح المسلح هو وسيلة مهمة لإعادة فلسطين إلى الوعي العربي والعالمي، وإثبات الوجود الفلسطيني كفاعل وليس كضحية فقط.
وبعد هزيمة 1967 وصعود المدّ الفدائي، انتُخب عرفات عام 1969 رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فحوّلها من إطار رسمي شكلي إلى جبهة وطنية حقيقية تضم مختلف الفصائل الفلسطينية، وقاد المقاومة من قواعد الأردن حتى أحداث “أيلول الأسود” عام 1970، ثم من لبنان حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث خرجت المنظمة إلى تونس.
وكان لدى أبو عمار رؤية واضحة المعالم أثناء العمل الفدائي، وهي توحيد القرار الفلسطيني، مهما اختلفت الأساليب، لأن التجربة الميدانية أثبتت له أن البندقية بلا غطاء سياسي تُستنزف، فحوّل المقاومة من مجموعات متناثرة إلى كيان سياسي منظم يمثل الفلسطينيين دوليًا، من خلال تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني ككل.
وبدأ التحول الكبير في خيارات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من الجزائر عام 1988، حيث أعلن قيام دولة فلسطين وقبول قرارات الأمم المتحدة 242 و338، ما عُدّ تحوّلًا جذريًا من المقاومة المسلحة إلى العمل السياسي والدبلوماسي.
لأنه أدرك أن تغير موازين القوى بعد خروج المقاومة من لبنان جعل الصدام المسلح غير مجدٍ، لذلك انتقل إلى توظيف الشرعية الدولية كورقة بديلة عن السلاح، لإدخال فلسطين إلى النظام الدولي من بوابة القانون والاعتراف.
ثم استمر عرفات في هذا النهج وقاد المفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، مؤسسًا بموجبه السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، وعاد بسببها إلى غزة ورام الله ليبني أول مؤسسات حكم فلسطيني داخل الأرض المحتلة.
وقد قبل عرفات بخيار السلام، لأنه واجه معادلة “كل شيء أو لا شيء” التي عطّلت تحقيق أي تقدم سياسي، اختار “شيئًا” يراه ممكنًا — وهو سلطة محدودة الصلاحيات — على “اللاشيء” الذي مثّل استمرار الشتات، كان رهانه أن الدولة يمكن أن تُبنى تدريجيًا من هذا الكيان الناشئ.
وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 واندلاع الانتفاضة الثانية، شعر عرفات أن إسرائيل استغلّت أوسلو لإدارة الاحتلال لا لإنهائه، عندما اكتشف أن الدولة الموعودة تتلاشى خلف مشاريع الاستيطان، عاد إلى خيار جديد وهو المقاومة الشعبية كوسيلة ضغط سياسي لإعادة التوازن التفاوضي، وعلى إثر ذلك حاصر الجيش الإسرائيلي عرفات في مقره برام الله متهما إياه بقيادة تلك الانتفاضة وتمويلها، واستمر الحصار منذ 2002 حتى خروجه من رام الله ووفاته عام 2004 في باريس.
الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بكوفيته وحضوره مثّل التحوّل البنيوي في الحركة الوطنية الفلسطينية من البندقية إلى الدبلوماسية، ومن المنفى إلى الكيان السياسي، فرمزيته لا تكمن في إنجازاته، بل في قدرته على تمثيل الفلسطينيين كجماعة تاريخية واحدة رغم الانقسامات.