آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [26]

2

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد: الدور الروسي

ليس جديداً ما ورد (قبل أسابيع) في كتاب مدير الموساد السابق، يوسي كوهين، الجديد: «سيف الحرّية: إسرائيل والموساد والحرب السرّية». يتحدّث المؤلّف (صديق حُكّام الخليج) بكلّ بساطة عن اتّفاق تمّ خلال الحرب السوريّة بين حكومة العدوّ والحكومة الروسيّة للتعاون في قصْف خطوط الإمداد بين إيران وحزب الله. والكلام كان قد ورد في كتاب نتنياهو الأخير، وفيه يقول إنّ بوتين سمح له بالعمل العسكري الحرّ في سوريا، وإنّ بوتين فتح يدَيه أمام نتنياهو بمعنى أنّه ضيفُه في سوريا، كي يفعل ما يشاء ضدّ إيران وحزب الله. الدور الروسي لم يكن مفاجئاً وكان محفوفاً بالكثير من الأوهام التي سادت في أوساط محور الممانعة. لَقب «بو علي بوتين» أُسبغَ عليه مبكّراً وتوقّعَ أطراف المحور أن تصبح روسيا عنصراً فاعلاً في محور المقاومة.

المغالطات التي سادت في المحور حول روسيا تركّزت على: المبالغة في تقدير الموقف الروسي من القضيّة الفلسطينيّة. شرح بوتين أخيراً دور اللّوبي الروسي في إسرائيل في التقريب بين إسرائيل وروسيا. الموقف الروسي من القضيّة الفلسطينيّة موقف لفظي مَحض ولا يتصدّى للطروحات الإسرائيليّة في المحافل الدوليّة ولا يقدّم دعْماً للشعب الفلسطيني. الموقف السوفياتي من إسرائيل كان تحت السقف العربي (بكثير) في كلّ سنوات الحرب الباردة. وأدّى الاتّحاد السوفياتي دوراً مؤثّراً في تخفيض سقْف الطروحات الفلسطينيّة. وموسكو هي التي طوّعت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين من أجل منْع تطوّر عمليّاتها كما أراد ذلك وديع حدّاد وعدد من المؤسّسين الأوائل.

وكان الاتّحاد السوفياتي يضغطُ على منظّمة التحرير لتليين مواقفها واعداً بتسوية دولية تشترك فيها أميركا مع الاتّحاد السوفياتي كالعادة في الحرب الباردة، خدعت أميركا الاتّحاد السوفياتي وكانت تعمل جاهدة من أجل إبعاد الاتّحاد السوفياتي (وإسرائيل لم تكن تقبل بأيّ مسار تفاوضي يضع أميركا والاتّحاد السوفياتي على المستوى نفسه). العرب مسؤولون عن الهزيمة في 1967 والسادات مسؤول بدرجة كبيرة عن الهزيمة في 1973، لكنّ الاتّحاد السوفياتي لم يكن يوماً يمنح العرب من الدعْم السياسي والعسكري ما كانت أميركا تمنحه لإسرائيل. اكتشفت فصائل منظّمة التحرير في صيف 1982 أنّ الاتّحاد السوفياتي ليس في وارد تحدّي أميركا وإسرائيل، وأنّه سيتركها وسوريا ولبنان (وقواه «الوطنيّة») لمصيرهم. وصول أندروبوف إلى السُّلطة أنعش الكثير من الآمال في تلك الحقبة، ولكنّه لم يعمِّر طويلاً في الحُكم.

هل أنّ إيران والحزب عوّلا خطأً على الدعم السوفياتي؟ من المؤكّد أنّ الإعلانات المتكرّرة من إيران عن اتّفاقيّات أمنية وعسكريّة مع روسيا كانت إعلانات فارغة. والعناوين البرّاقة عن شبكة الصواريخ الروسيّة كانت من باب التمنّي. كانت إعلانات تزويد إيران بشبكات صواريخ روسيّة تتكرّر في الإعلام، والأمر عينه تكرّرَ في حالة سوريا. وعندما عرض قاسم سليماني على بوتين أن تقوم روسيا بالتدخّل العسكري في سوريا وافقت موسكو، ولكنْ بشروطها هي التي لم تشاركها على الأرجح للحلفاء.

لم يتمّ نشْر بنود الاتّفاقيّة الأمنيّة والعسكريّة التي تدخّلت روسيا على أساسها في سوريا، لكنّ الحلفاء سرعان ما اكتشفوا أنّ التدخّل العسكري الروسي لا يشمل أبداً الدفاع عن سوريا، وليس النظام فقط، من النيران الإسرائيليّة المتكرّرة. لا مجال للحديث هنا عن صوابيّة استماتة المحور في الدفاع عن النظام السوري. كان واضحاً أنّه فقد شرعيّته الشعبيّة وأنّ بشّار الأسد معزول بالكامل وأنّ الفساد يتوسّع وينتشر في أوساط النظام. لم يكن هناك محاولة من بشار الأسد لمخاطبة شعبه أو استمالته (يصوّر فاروق الشرع في الجزء الثاني -الصريح- من مذكّراته شخصيّة بشار الأسد المُنفّرة وكيف أنّه كان مغروراً ولا يستمع إلى مستشاريه).

فشل محور المقاومة في فهْم دوافع النظام الروسي في تدخّله في روسيا. لم تكن روسيا في وارد تحدّي واشنطن، أو إسرائيل. إنّ الصين وروسيا (كما بعض الدول العربيّة) يرَون أنّ مراضاة إسرائيل ومحاباتها هي من ضرورات الحفاظ على علاقة جيّدة مع واشنطن. حتى في زمن الاتّحاد السوفياتي، كان اللّوبي الإسرائيلي هنا يؤثّر كثيراً في صنْع القرار نحو الاتّحاد السوفياتي. وأقطاب اللّوبي الإسرائيلي في الكونغرس، مثل سكوب جاكسن وجاكوب جافيتز، أدّوا دوراً مهمّاً في تصليب مواقف الإدارات الأميركيّة نحو إسرائيل. كانت العلاقة تخضع لمدى قدرة الإدارة على ترتيب الإفراج عن صهاينة روس والسماح لهم بالهجرة إلى إسرائيل.

وكانت الحركة الصهيونية تتحايل من أجل تسهيل الهجرة إلى إسرائيل (فعلت إسرائيل الأمر عينه بالنسبة إلى هجرة اليهود العرب. كانت تضغط على الدول العربيّة، بما فيها سوريا في عهد حافظ الأسد، متعهّدةَ -كَذِباً- أنّ المهاجرين اليهود لن يلجؤوا إلى إسرائيل. في لبنان، زها الصحافي محمد الشمعة قبل بضْع سنوات في مقالة في «لوريان لوجور» أنّ مهاجرين يهوداً لجؤوا إلى لبنان وأنّ لبنان آواهم، بصرْف النظر عن لجوء معظمهم أو كلّهم إلى إسرائيل وقتالهم ضدّ العرب. ولاحظ الإعلام الغربي تلك المقالة المتعاطفة مع الصهيونية وكافأت «واشنطن بوست» الصهيونيّة الصحافي اللّبناني بعرْض عمل قبله).

 بوتين شريك في كلّ الحرب الإسرائيليّة على المحور برمّته لغايات تقاربه مع إسرائيل التي يراها -كما تراها الصين- مفتاحاً لتحسين علاقاته مع أميركا

الصين التي ينتظر الكثيرُ من العرب والمسلمين صعودها كي تزيح أميركا عن سدّة السيطرة العالميّة لا تزال تساير إسرائيل. والأكاديمي السعودي المجتهد، محمد السديري، نشر عن الدعاية والعمل الصهيوني في الصين، والأخيرة تعقد علاقات متشعّبة ومتنوّعة مع إسرائيل ولا تصطدم بأميركا حول القضيّة الفلسطينيّة في المحافل الدوليّة. أراد بوتين توسيع نفوذ بلاده في بلد عربي مركزي، وأراد توسيع تواجدها العسكري في سوريا عبر قاعدتَين. وروسيا احتضنت فريق معارضة سوريّاً ولم تكن تحاول التوفيق بين المعارضة -أو معارضتها- والنظام، أو لأنّ الأخير كعادته لم يكن في وارد التنازل قَيد أنملة عن احتكاره العائلي للسلطة في سوريا.

هل أنّ الحزب بالغ في أهميّة تواجد روسيا ورأى فيه تحدّياً للسياسة الأميركيّة؟ هذه الرؤية خياليّة تماماً لأنّ الاتّحاد السوفياتي (وكان إمبراطورية بحقّ وحقيق) تحاشى دوماً التصادم المباشر مع أميركا: في أزمة الصواريخ الكوبيّة وفي الصراع العربي ــ الإسرائيلي وفي أميركا اللّاتينيّة وفي أفغانستان. انسحب الجيش الروسي من أفغانستان مهزوماً من أميركا لا مِن الشعب الأفغاني. وإعلام المقاومة كان يزخر بالكلام المفرط عن شبكة، أو شبكات، الصواريخ الروسيّة وكيف أنّها ستحمي الأجواء الإيرانيّة والسوريّة معاً. لكن سرعان ما ظهر أنّ روسيا ليست في هذا الوارد.

لماذا لم يُعِد الحزب أو إيران حساباتهم بعد أن ظهر للعيان أنّ التواجد الروسي في سوريا سيكون مُرحِّباً بكلّ الأعمال الحربيّة الإسرائيليّة وأنّ روسيا ستفتح المجال واسعاً أمام إسرائيل لتقتل من تشاء مِن عناصر المحور وأنّها ستمنع أيّ إمداد من سوريا لحزب الله؟ ماذا كان الحزب ينتظر؟ لماذا لم يرفع الصوت ضدّ روسيا وضدّ هذه المشاركة منها في الحرب عليه؟ وكان التواصل بين الحزب وروسيا مستمرّاً، وزار محمد رعد على رأس وفد من الحزب موسكو وكانت الابتسامات هي الغالبة في اللّقاء.

روسيا كانت ولا تزال معادية للحزب. ألم يقرأ قادة الحزب كتاب نتنياهو الأخير؟ بوتين شريك في كلّ الحرب الإسرائيليّة على المحور برمّته لغايات تقاربه مع إسرائيل التي يراها -كما تراها الصين- مفتاحاً لتحسين علاقاته مع أميركا. والمسؤول الإيراني، محمد الصدر، صرّح في يونيو من 2025 أنّ روسيا أمدّت إسرائيل بمعلومات عن الصواريخ الإيرانيّة. لم يكن للتصريح أصداء في لبنان.

والتدخّل العسكري الروسي في سوريا كان يشمل تواجداً أمنيّاً واستخباراتيّاً (إلكترونياً وبشريّاً) فلماذا لم يتساءل عناصر المحور عن تمنّع روسيا عن مشاركته في معلومات عن الوجود المعادي الكثيف ضدّهما في سوريا؟ وعلى أيّ أساس حافظَ الحزب على تواجده الكثيف في سوريا بعد أن تبيّن أنّ روسيا حتماً متواطئة في الحرب الإسرائيليّة ضدّ المحور في سوريا نفسها، التي كان من المفترض أن تكون تحت مظلّة حماية روسيّة؟ وفي كتاب «سيف الحريّة» المذكور آنفاً يتوضّح أنّ إسرائيل وروسيا شكّلا شبكة وضباط ارتباط لتنسيق القصْف والقتْل الإسرائيلي وأنّ روسيا كانت تأخذ عِلماً مسبقاً بالعمليّات. أي إنّ روسيا مسؤولة ضمناً عن قتْل قادة لبنانيّين وإيرانيّين وسوريّين على الأرض السورية. كان يمكن لروسيا أن تنبّه بعض هؤلاء (وهم متحالفون معها نظريّاً) لكنّها أرادت أن تخدم الأجندة الإسرائيليّة.

ثم هناك جانب آخر في ملفّ التدخّل العسكري الروسي في سوريا. ماذا كان أفق هذا التدخّل؟ وإلى أيّ حدّ كانت روسيا تخدم الأجندة الأميركيّة وتستخدم التنسيق بينها وبين إسرائيل كي تكسب ودّ الإدارات الأميركيّة؟ إنّ سقوط بشار الأسد (وهو غير مأسوف عليه، بالطبع) تمّ بترتيب مؤكّد من روسيا. إنّ استقبال أحمد الشرع في روسيا لم يكن يدلّ على أنّ العلاقة مستجدّة بل هي وليدة سنوات عمل لروسيا في سوريا. إنّ إسقاط النظام كان على الأرجح عملاً روسيّاً ــ إسرائيليّاً ــ خليجيّاً ــ أميركيّاً ــ أوروبيّاً مشتركاً. وروسيا سمحت لجمهورية إدلب بالتوطيد والتمدّد وكان بوسعها أن تلاحق أحمد الشرع ومجموعته، ولكنّها ارتأت غير ذلك.

وهل كانت روسيا بأجهزة استخباراتها تزوِّد إسرائيل بمعلومات عن تحرّكات أعدائها (أعداء إسرائيل وحلفاء روسيا المفترَضين) كي تقبض ثمن ذلك في واشنطن؟ وكلّ ذلك كان واضحاً في السنوات الماضية ودفْع روسيا لبشار الأسد بالرحيل (تحت خدعة التنقّل في الداخل السوري) كان عامِلاً أساسيّاً في تسهيل وصول الشرع إلى السلطة. والشرع يتعامل مع روسيا بغير ما يتعامل به مع إيران، ما يدلّ أنّ الأحقاد لم تكن عميقة، إذا كان هناك من أحقاد. النظام السوري الجديد لا يذكر إلّا التدخّل الإيراني وتدخّل حزب الله فقط. وليس من المستبعد أن تكون إسرائيل هي التي توسّطت قبل سقوط النظام بين الحكومة الروسيّة وحكومة إدلب.

الحزب تغاضى عن كلّ ذلك وكان يحسّن علاقته (كما ظنّ) بالحكومة الروسيّة وكان يدعو إلى المزيد من التعاون معها. وهل هي مصادفة أنّ كل الكلام عن مساعدة روسيّة، عسكريّة أو تقنيّة، للبنان كانت مجرّد كلام أوهام؟ كنّا نسمع عن مشروع لمدّ لبنان بالكهرباء أو بالسلاح وكلّ ذلك لم يُترجم حتى عندما كان الحُكم موالياً لمحور المقاومة. الحزب تعرّض لخديعة ومشى في مسار التحالف مع روسيا حتى عندما تبيّن أنّ القصْف الإسرائيلي يتمّ برضى روسي. والغريب: لم يصدر أيّ موقف نقْد أو حتى تساؤل مِن قِبل الحزب حول الموقف الروسي بعد سنتَين من الحرب الإقليميّة التي كانت فيها روسيا متواطئةً.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة