جعفر محمد حسين فضل الله
بات «أبناء إبراهيم» و«اتّفاقات إبراهيم» من المصطلحات التي يتدفّق تداولها في ساحات السياسة والخطابات، ويتمّ البناء عليها في لحظة تاريخية مصيريّة شديدة الحساسيّة لتأسيس توجّهات جديدة في المنطقة، وكأنّ المشكلة هي نسبٌ لا بدّ من أن يعود إليه أبناء المنطقة، أو ديانات تتناحرُ على لاهوتٍ أو شريعة!
العناوين عندما تفرّغ من مضمونها، سيكون من السفاهة أن يركن الناس إليها في وقائع تُفرض عليهم اتّكالاً على حسن نواياهم وحبّهم للسلام وركونهم إلى قيمهم الأخلاقيّة!
اختصرها الإمام عليّ (ع) يوماً، عندما قال للخوارج: «كلمة حقٍّ يُراد بها باطل» وقد رفع أعداؤه شعاراً لامعاً: «لا حُكمَ إلّا للهِ»، فمَن يجرؤ أن يرفض مثلَ هذا الشعار؟!
لا، المسألة ليست قضايا لغويّة ومفاهيم ذهنيّة مجرّدة، بل هي أوّلاً وأخيراً: كيف يتموضع الشعارُ على أرض الواقع؟ وأيّ تضاريس يأخذ؟ وفي أيّ ظروفٍ يتشكّل؟
قالها لهم عليّ (ع) آنذاك: «نعم، إنّه لا حكم إلّا لله ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلّا لله، فإنّه لا بدَّ للناس من أمير بَرٍّ أو فاجرٍ»، فالشعار صحيح ولكنَّه في الواقع يتجسّد في أميرٍ، فعليكم أن تختاروا: التّقيّ أم الفاجر؟ فإذا لم تُبعدوا الفاجر، فقد مكّنتموه من أن يحكم فيكم باسم الله! هكذا يتحوّل الفجور إلى شيءٍ مقدّس! ودائماً السبب هو السفاهة والتفاهة التي تجعل الحياة تتقبّل أن يحكمها اللفظ دون المعنى والشعار دون المضمون والفكرة دون الواقع!
في تاريخ أرض كنعان، كادَ بعضُ «أبناء إبراهيم» لأخيهم يوسف (ع) وألقوه في «غيابة الجبّ»، حتّى بيعَ في أرض مصرَ «بثمنٍ بخسٍ» عبداً لا بدَّ أن يَسمع ويَطيع، ودخل السجنَ لأنّه لم يرضَ أن يبيع دينه بشهوة، وإذا عفا عن إخوته في آخر العمر، فذلك عندما تواضعوا بعد استكبار وأقلعوا عن إجرامهم وتابوا عن أفعالهم وعادوا إلى ربّهم وطلبوا العفو، فالقضيّة بينهم وبينه لم تكن سوى مسألة شخصيّة.
أمّا اليوم فالقضيّة عامّة وهي قواعد حياةٍ لشعوبٍ وأمم ومبادئ وقيمٌ لبشريّة، فـ«أبناء إبراهيم» الذين يُشار إلى السلام معهم اليوم، لا يَعتبرون غيرهم بشراً، حتى يعترفوا بالسلام معهم، فلو كانوا في زمان إبراهيم (ع) لكانت براءته منهم، وقد تبرّأ من أبيه في عصره عندما «تبيَّن له أنّه عدوّ لله»؛ لأنّ «إبراهيم لم يكن اسماً ولا نسباً ولا عنواناً ولا شعاراً، بل كان “أمّة” ذائباً في رسالة الله وقيمه، من حيثُ كان «قانتاً لله»، لا يرى ذاته ولا نفسه ولا شيئاً مع الله!
لم يكن إبراهيم (ع) كبعض «أبنائه» اليوم، عاثوا في الأرض فساداً وأبادوا شعوباً بأسرها وأخرجوها «من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله»، يُحرقون البشر على الهواء مباشرة
«أبناء إبراهيم» الأشقياء اليوم يدوسون شرعة حقوق الإنسان وينتهكون قوانين الدول ويسخرون من هيئات الأمم ويهينون العلماء وطلّاب العلم ويكمّون الأفواه في الجامعات والمدارس ويضيّقون على الناس حرّية تعبيرهم و«يحرّفون الكلم عن مواضعه» في الإعلام و«يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض» ويحتالون على «السبت» وكلّ أيام الأسبوع، ليجعلوا معصية الله طاعةً وإفسادهم في الأرض إصلاحاً واستعباد الشعوب سلاماً!
لم يكن إبراهيم (ع) كبعض «أبنائه» اليوم، عاثوا في الأرض فساداً وأبادوا شعوباً بأسرها وأخرجوها «من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله»، يُحرقون البشر على الهواء مباشرة وتوحّشوا حتّى بات الصاروخ لديهم سلاحَ أفراد، ينسفون أجسادهم حتّى لا يبقى شيءٌ منها ولا مَن يدفنون!
إبراهيم (ع) بنى البيت الحرام، وكان «مثابةً للنّاس وأمناً» وطهّره «للطائفين والعاكفين والرّكّع السجود»، وبعضُ «أبنائه» اليوم نسفوا بيوت الله ونشروا الخوف في جنباته وداسوا على الحُرُمات ودنّسوا المقدّسات وهتكوا الأعراض ونهبوا الأموال والممتلكات، حتّى ضجّ إبراهيم (ع) من «الخليل»، لقاءَ ما يُصنع فيها وفي أخواتها من القرى والمدن بحق «أبنائه» المستضعفين!
إبراهيم (ع)، قُرنَ اسمُهُ بماء زمزمَ مُباحاً لسُقيا الحجيج والعطشى، ودعاؤه لربّه أن يرزق الناس «من الثمرات لعلّهم يشكرون»، وبعضُ «أبناء إبراهيم» اليوم أجروا دماء الناس أنهاراً وحاصروهم في قوتهم ولوّثوا مياههم، حتى صارَ موتُهم فيما كان فيه حياتهم!
لا، ليس هؤلاء المجرمون المحتلّون لفلسطين «أبناء إبراهيم»، لأنّ إبراهيم، لم يكن مستكبراً ولا مجرماً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّ معنى أن تكون من «أبناء إبراهيم» وعلى «دين إبراهيم» هو ما سطّره الوحيُ في الكتاب «مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب»، التوراة والإنجيل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)/[آل عمران: 68].
* أستاذ جامعي وحوزوي