من بين الركام، ومن قلب مكانٍ أراد له الاحتلال أن يكون شاهدًا على الموت، نهضت الحياة من جديد. أمام مجمع الشفاء الطبي، الذي تحوّل خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية إلى أيقونة للجراح والحصار والدمار، وقف 170 طبيبًا وطبيبة من قطاع غزة في “فوج درع الإنسانية”، ليعلنوا انتصار الإنسان على آلة القتل، ويحتفلوا بتخرّجهم وحصولهم على شهادة “البورد الفلسطيني”، في مشهد تجاوز كونه حفلًا أكاديميًا ليصبح شهادة تاريخية على الإعجاز والصمود والتمسّك بالحياة.
لم يكن المكان اختيارًا عابرًا، فمجمع الشفاء، أكبر مستشفيات غزة، شهد واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث: حصار خانق، اقتحامات عسكرية، استشهاد أكثر من 400 شهيد، واعتقال عشرات من الكوادر الطبية، وتدمير ممنهج للمرافق الصحية.
ومن بين هذا الركام نفسه، خرج “فوج درع الإنسانية” ليقول إن ما عجزت عنه القذائف والدبابات هو كسر روح الإنسان الفلسطيني.
في هذا المشهد المهيب، بدت غزة وكأنها تكتب فصلًا جديدًا من تاريخها بيد أطبائها. أطباء واصلوا الدراسة تحت القصف، واجهوا النزوح والتجويع والخوف، وعملوا في غرف عمليات بلا كهرباء ولا أدوية، وحملوا الجرحى بأيديهم، ولم يتركوا مرضاهم حتى اللحظة الأخيرة.
بعضهم فقد منزله، وبعضهم فقد عائلته، ومن هذا الفوج نفسه ارتقى عشرة أطباء شهداء، ليغيبوا بأجسادهم ويظلوا حاضرِين برسالتهم.
مدير مجمع الشفاء الطبي، الدكتور محمد أبو سلمية، اختصر المشهد بكلمات قليلة لكنها عميقة الدلالة: “دمّروا المستشفيات، لكنهم لم يستطيعوا تدمير الإنسان… الطبيب الفلسطيني نهض من جديد كطائر العنقاء، ليقول للعالم: نحن باقون”.. كلمات لم تكن توصيفًا بل حقيقة تجسّدت أمام العيون.
أما الكاتب والمحلل السياسي حلمي الأسمر، فرأى في المشهد ما يتجاوز حدود المنطق، وكتب: “غزة ليست من هذا الكوكب.”
فكيف يمكن لمدينةٍ محاصرة، تُقصف ليل نهار، أن تخرّج أطباء وتحتفل بالمستقبل؟ وكيف يمكن لمستشفى كان مسرحًا للمجازر أن يعود منصة للأمل؟
في ساحة الشفاء، لم يكن حفل التخرّج مجرد مراسم، كان إعلانًا أخلاقيًا بأن الطب في غزة ليس مهنة فقط، بل فعل مقاومة إنسانية، وأن القسم الطبي، كما قال كثيرون، يحتاج إلى إعادة كتابة، ليُضاف إليه ما سطّره أطباء غزة بدمهم: الصمود تحت النار، والوفاء للمرضى وسط المجاعة، والالتزام بالحياة في زمن الإبادة.
من هنا، من المكان الذي أراده الاحتلال نهاية لكل شيء، خرجت رسالة واضحة إلى العالم: غزة تُقصف… لكنها لا تموت، غزة تُحاصر… لكنها تُنجب الأمل.
ومن مستشفى الشفاء، حيث ارتقى الشهداء، وُلد جيل جديد من أطباء الحياة، ليكونوا درع الإنسانية في وجه الموت، ودليلًا حيًا على أن الإنسان أقوى من الحرب.