علاء اللامي
بعد التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة مباشرة، دخلت حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين طورها الثاني، أو ما يمكن أن نسمّيه «المرحلة الترامبية»، نسبة إلى صاحب خطة وقف إطلاق النار الطامح إلى نيل جائزة نوبل للسلام، والذي يعجبه أن يسمّيها «خطة السلام في الشرق الأوسط بعد ثلاثة آلاف سنة من الحروب»! وخلال هذا الطور، تواصلت حرب الإبادة الجماعية، ولكن بكثافة نارية أقل من السابق، وبصخب إعلامي أكثر نعومة، بما يتلاءم مع الشكل الجديد الذي اتخذته.
في هذا الصدد كشفت وزارة الصحة في القطاع عن الأرقام التالية الموثقة بالأسماء والإحداثيات والوقائع وهي قابلة للتغيير باتجاه تصاعدي:
-بلغ إجمالي عدد القتلى: 379
-بلغ إجمالي عدد الإصابات: 992
– إجمالي عدد حالات الانتشال: 627
وبهذا ارتفع عدد الشهداء الإجمالي منذ بدء العدوان إلى 70,369 قتيلاً، و171,069 إصابة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى تاريخ إعلان هذه الأرقام قبل شهر من الآن تقريباً.
بالتساوق مع استمرار هذه الحرب الإجرامية، تستمر الإدارة الصهيونية في العمل بمشاريعها لتهجير السكان، باستعمال القتل اليومي وتشديد الحصار كعتلة تطبيقية لتنفيذ هذا المخطط الإجرامي.
واستمرت حكومة نتنياهو بالتملص من تنفيذ التزاماتها بموجب هذا الاتفاق الذي صفق له إعلام الأنظمة العربية والإقليمية، فانخفض عدد شاحنات المساعدات الإنسانية إلى الثلث ومُنع المرضى والجرحى من مغادرة القطاع للعلاج، ومنع دخول مواد البناء والأبنية الجاهزة في موسم شتوي شديد القسوة.
جرى كل ذلك بصمت مريب، وأقرب إلى التواطؤ من قبل راعي الكيان وحليفه الأميركي، وأيضاً من قبل الأطراف الأخرى -العربية والإسلامية- الموقعة على الاتفاقية الترامبية.
ولعل آخر فقرات مشروع التهجير الصهيوني هي قرار نتنياهو بالسماح بفتح معبر رفح للمغادرين الفلسطينيين فقط وعدم السماح بدخول العائدين، إلى جانب مشاريع التصفية الجسدية للمقاومين الفلسطينيين كمشروع قرار إعدام الأسرى الفلسطينيين المقدم إلى الكنيست، والمشروع الذي قدّمه الوزير العنصري المتطرف بن غفير والقاضي بعزل الأسرى في سجون خاصة محاطة بمساحات مائية تعيش فيها تماسيح مفترسة!
إنها لفضيحة مدوية للكيان الصهيوني المتشدق بالديموقراطية وحقوق الإنسان ولمن يدعمونه من الدول الاستعمارية الغربية، وامتداداً نحو الشرق، إلى روسيا والصين المتفرجتين على حرب الإبادة الجارية بحق شعب أعزل يتعرض للتجويع والقتل اليومي والإرهاب السافر حتى باستعمال الحيوانات المفترسة في عودة صريحة إلى عهود الدم والعبودية والإبادة العرقية في القرون الوسطى!
إن هذا العرض المكثف لما يجري في غزة وعموم فلسطين يلخص جزءاً صغيراً من المشهد المأساوي فقط. أمّا ما يجري الحديث عنه ديبلوماسياً، وبصخب سعودي وفرنسي خصوصاً، حول موضوع حل الدولتين، فيمكن أن يشكل الخلفية «الموسيقية التصويرية» لحرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان العنصري!
مداخلة للمؤرخ رشيد الخالدي
في سياق عودة الحديث بشيء من الحماسة المفتعلة عما يسمى مشروع حل الدولتين، كانت للمؤرخ الفلسطيني المعروف د. رشيد الخالدي، المستقيل من كرسيه الجامعي في جامعة كولومبيا الأميركية استنكاراً للحملة القمعية الترامبية ضد أساتذتها وطلبتها المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، مداخلة تلفزيونية مهمة، أعاد من خلالها موضَعَة النقاش حول آفاق حل القضية الفلسطينية. هنا وقفة تحليلية عند بعض ما تفضل به:
قال د. الخالدي «إن حل الدولتين وهْمٌ غير قابل للتحقيق لسبب بسيط، هو أنّ مَن يتكلّم عن حل الدولتين لا يتكلّم عن إنهاء الاحتلال ولا عن إنهاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية ولا عن وقف الاستيطان في الضفة الغربية».
وكلام الخالدي صحيح إذا نظرنا إليه بمنظار اللحظة الجيوسياسية التي نعيشها حيث حرب الإبادة الجماعية الشنيعة مستمرة في طورها الترامبي. ولكننا إذا وضعنا حل الدولتين تحت المنظار التأريخي التراكمي، فقد مات هذا الحل وشبع موتاً قبل أكثر من عقدين من السنوات، وربما قبل اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعدة أشهر. ثم مات هذا الحل «موتاً جديداً» حين صادرت حكومات العدو غالبية أراضي الـ22 في المئة التي أُريد لها أن تكون وطناً للفلسطينيين وهو المشروع الذي وافقت عليه القيادة الفلسطينية.
غير أنّ الواقع على الأرض يقول، لم يتبقَ للشعب الفلسطيني من أرض فلسطين التاريخية إلا أقل من عشرة في المئة، وبلغة الأرقام تبقّى منها 9.8 في المئة، كما وثَّق محمد سعيد دلبح في كتابه «ستون عاماً من الخداع» (ص 424 وما بعدها). وهذا يعني أن الأرض -وهي العامل الأساس لأي حل- التي يريدون تطبيق حل الدولتين عليها لم تعد قائمة، أو في الأقل لم تعد الأرض كما كانت منذ طرح هذا المشروع للحل.
أي إنَّ صافي المساحة التي يجري الحديث عنها في ما يسمى «تسوية سلمية»، سواء كحكم ذاتي أو دولة مبعثرة ومنفصلة ومهشمة ومنقوصة السيادة كنسبة من مساحة فلسطين التاريخية هي 22.3 في المئة، ينقص منها 12.5 في المئة، فيتبقى 9.8 في المئة من المساحة الإجمالية لفلسطين التاريخية!
هذا بلغة الأرقام الموثقة، فهل لدى أهل حل الدولتين ما يردّون به عليها؟ قد يقال إنَّ الحل سيقضي بانسحاب إسرائيل مما استقطعته واستولت عليه من أراضي وهذا أمر أقرب إلى المحال؛ فالعالم العاجز عن إجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها، سيكون أكثر عجزاً وفشلاً من أن يجبرها على الانسحاب من أراض تعتبرها أرضها التاريخية التي منحها لها الرب بوعد توراتي يكرّره جميع الصهاينة دينيين ولا دينيين، هذا أولاً.
وثانياً، فإنّ رضوخ إسرائيل وموافقتها على حل الدولتين لا يمكن أن يحدث إلا في حالة واحدة هي توقّف إمدادها بالمال والسلاح من قبل الغرب الإمبريالي وخاصة الولايات المتحدة بانكسار الهيمنة الغربية الأميركية على العالم، وهذا أمرٌ محتمل الحدوث على المدى البعيد أو المتوسط، وعند هذه اللحظة سيكون حلُّ تفكيك الكيان الصهيوني نفسه ممكناً أيضاً ولا قيمة لحل الدولتين عندها.
يقارب د. الخالدي مضمون ما قلناه في الفقرة السابقة بخلاصة استنتاجية قال فيها: «لو كانت هناك إرادة حقيقية لتشكيل دولتين لكان يجب إزالة الاستيطان وإنهاء الاحتلال.
إنهم لا يتكلمون في هذا الموضوع إطلاقاً. من دون هذا الحكي، هذا الكلام عن حل الدولتين هو كلام فارغ. هناك 750 ألف مستوطن في الأراضي الفلسطينية بعد أن كانوا مئة ألف فقط قبل اتفاقية “أوسلو”، مَن سيخرجهم من فلسطين وكيف؟ هؤلاء كتلة ناخبة مهمة في الكنيست الإسرائيلي، مَن سيخرجهم؟
إنَّ حلَّ الدولتين حل وهمي ومَن يتكلم فيه يتكلم بكلام فارغ». ثم ينتقل الخالدي إلى المقارنة بين الحلين، حل الدولتين وحل الدول الواحدة، فيقول: «إن حل الدولة الواحدة بعيد جداً في الأفق وليس سهلاً تفكيك الاستيطان وإقناع المستوطنين بدولة واحدة، هو ليس سهلاً، هذا صحيح، ولكن الحل الآخر، وهو حل الدولتين، وهمي، وهو كلام يقوله مَن لا يريدون أي حل».
إنّ الذهاب في تحليلات الخالدي ومَن يشاركونه آراءه -ومنهم كاتب هذه السطور- إلى أقصى مداها المنطقي، يجعل الاعتقاد الذي ساد بعد التوقيع على خطة ترامب، والذي مفاده أن حرب الإبادة الجماعية قد توقّفت، وأن مشاريع التهجير قد هُزِمت نهائياً، ولن يعود إليها الاحتلال وحلفاؤه الغربيون، ليس صحيحاً بل هو وهم خطر.
حرب إبادة باتجاه التهجير
في الحد الأدنى لم تتوقف حرب الإبادة، بل تغيّر شكلها فقط نتيجة الضغط الأممي الذي مارسته حركات الاحتجاج والتضامن مع الشعب الفلسطيني إلى درجة صار معها شعار «حرة حرة فلسطين… من النهر إلى البحر» أحد الشعارات الرئيسية باللغات الأجنبية لحركة التضامن العالمية، أقول؛ تغيّر شكل هذه الحرب من عمليات إبادة جماعية صاخبة وكثيفة إلى عمليات إبادة هادئة تنفذ بدم بادر وتخطيط دقيق. وفي هذه الأثناء، اشتغلت بعض أذرع الاحتلال لتشجيع الهجرة من القطاع حتى تجاوزت وفق بعض الإحصاءات مئة ألف فلسطيني وفلسطينية.
وهنا، لا بد من تسجيل معطيات مهمة: أن حملة التهجير القسري بعد المجازر الإبادية الجارية الآن في القطاع ليست الأولى من نوعها بل هي استئناف لحملات التهجير عبر الإبادة في سنتي 1948 و1967: فبعد حرب 1948 ومجازر دير ياسين وغيرها قامت إدارة الكيان بتهجير 750 ألف فلسطيني وفلسطينية كانوا يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني (كان عديده سنة 1947 مليون وأربعمئة ألف نسمة) وبعد حرب 1967 هُجّر 300 ألف آخرين.
إنّ هذه الأرقام والوقائع التأريخية التي يقولها مؤرخ محترف تكشف مغالطات غالبية الذين انتقدوا المقاومة الفلسطينية وحمَّلوها مسؤولية ما حدث بسبب عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول 2023، وتجعله كلاماً فارغاً مريباً ولا معنى له، فالإبادة مستمرة والاحتلال والاستيطان مستمران، ولم يكن أمام الشعب الفلسطيني إلا خياران لا ثالث لهما؛ فإمّا انتظار الموت قتلاً ثم تهجير الناجين أو المقاومة والدفاع عن النفس والوطن بكل الوسائل.
المثالان الإيرلندي والجنوب أفريقي وحل الدولة الواحدة
وفي معرض دفاعه عن حل الدولة الواحدة الذي يستوجب تفكيك الكيان الصهيوني، يذكر الخالدي بعض السوابق التاريخية العالمية التي اختطت هذا الطريق ومن ذلك ما حدث في دولة جنوب أفريقيا التي كان يحكمها المستوطنون البيض حكماً عنصرياً تحت وطأة المقاومة المسلحة المستمرة والتي لم يساوم عليها قادتها الوطنيون الاستقلاليون الأفارقة وبدعم من حملات التضامن العالمية التي حاصرت النظام العنصري حتى سقوطه.
المثال الثاني، الذي ذكره الخالدي وقد يبدو بعيداً عن سياق حل الدولة الواحدة ولكنه قد يقاربه مضموناً فقد حدث في إيرلندا، حيث بدأ الاستيطان الإنكليزي هناك قبل ثمانية قرون وانتقل الوضع فيها من الصراع المسلح بين الحركة الإيرلندية الاستقلالية الشمالية والاحتلال البريطاني إلى نوع من الحل. لقد كرست «اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998» وضع إطار تفاوضي للحكم المشترك، ودفع الجزيرة بشمالها وجنوبها نحو شكل من أشكال الوحدة.
أعتقد أن مثال الحالة الإيرلندية بعيد كثيراً عن الحالة الفلسطينية رغم أنها تجري في سياق قريب مضموناً كما أسلفنا هو سياق التحرير وتفكيك الكيان السابق نحو كيان جديد جامع. فنقاط الاختلاف كبيرة وواضحة بين الحالتين، وما يزيد الأمور تعقيداً وصعوبة عاملان رئيسيان:
الأول، تَحَكُّمُ العنصرية الصهيونية الدينية والعلمانية، نخباً وجمهوراً، بالميدان بدعم غربي وجودي جعل موازين القوى تميل بشدّة لمصلحة الإباديين الصهاينة.
والثاني، هو التأثير السلبي والكارثي الذي ألحقته موافقة القيادة الفلسطينية التقليدية على اتفاقية أوسلو والتي لا تزال سلطة رام الله متمسكة بجثتها رغم تعفنها الشديد وتخلّي العدو وحلفائه عنها بما جعل هذه السلطة الفلسطينية أشبه بملحق أمني يعمل بإمرة الاحتلال الصهيوني.
على أي حال، فهذان العاملان، بمقدار ما يجعلان المثال الإيرلندي أبعد عن السياق الفلسطيني، يجعلان الأفق الأفريقي الجنوبي أقرب وأقوى أملاً بالحدوث، خصوصاً إذا حدث تطوّر كبير على الصعيد الجيوسياسي العالمي يُضْعِفُ القبضة الدموية للإمبرياليات الغربية على العالم من جهة، ويزيد من التمزقات والانشقاقات في الكتلة الاستيطانية الصهيونية ودولتها الدموية في فلسطين المحتلة ذاتها من جهة أخرى.
سلطة رام الله والعيب التأريخي
وفي معرض كلامه عن الدور السلبي لسلطة رام الله شبَّه د. الخالدي هذه السلطة بالمجموعات الجزائرية التي انحازت للاستعمار الفرنسي وقاتلت معه ضد قوات الثورة الشعبية وأطلق عليهم آنذاك اسم «الحركي» فقال الخالدي: «السلطة الفلسطينية تقوم بدور شرطي مقاول للاحتلال هذا صحيح.
وهو يوفر الأمن للمستوطنين الإسرائيليين وليس للمواطنين الفلسطينيين. هذه ليست سلطة فلسطينية هؤلاء “حركي” كما كانت فرنسا تطلق على عملائها في الجزائر. هؤلاء ناس مرتزقة يشتغلون عند العدو عملياً. وهذا عيب، عيب هذا»!
أعتقد أن من الضروري للأقلام التي تنتمي إلى موقف المقاومة أن تكف عن الدفاع عن الوهم الذي يسمونه «حل الدولتين» وعن استمرار الترويج له لأنه لن يعني في المطاف الأخير إلا نوعاً من أنواع التضليل المضر والسلبي.
وبدلاً من ذلك سيكون الأقرب إلى الحقيقة النظر بواقعية وشجاعة إلى الكيان العنصري الصهيوني على اعتباره كياناً عنصرياً خرافياً ولا مستقبل له وقد تساوت فيه قياداته السياسية والعسكرية العنصرية مع جمهورها وحاضنتها الانتخابية وأصبح مشروع الإبادة الجماعية للفلسطينيين مشروع دولة ومجتمع كما أكد بصواب نورمان فنكلستين وميكو بيليد وجدعون ليفي (توقفنا عند ما طرحوه في مقالتنا في «الأخبار» ليوم 4 تشرين الثاني 2025) ومثقفون غربيون ويهود متكاثرون، فيما يستمر غالبية المثقفين العرب في دورانهم الممل في حلقة الدروشة المسماة «حل الدولتين» الوهمية المفرغة من أي مضمون.
* كاتب عراقي