تتأخر محاكمات الموقوفين على ذمة القضايا في لبنان أعواماً عديدة، بسبب عدم اقتيادهم إلى الجلسات، نتيجة عدم توفير إمكانيات لوجستية وعناصر أمنية من أجل تأمين العملية، مما يؤدي إلى ضياع حقوق الأبرياء واكتظاظ السجون.
– خيّم سكون غير معتاد على قاعة محكمة الجنايات في شمال لبنان صباح الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أثناء جلسة محاكمة المتهمين في قضية مقتل الشيخ أحمد الرفاعي من قضاء عكار، إذ ساد القاعة ترقّب ملحوظ من الحاضرين، بينهم أسرة الضحية ومعد التحقيق، والجميع كانوا في انتظار حضور المتهمين، وبمجرد وصولهم تحدث المتهم يحيى الرفاعي مطالباً القاضي بـ”التشديد على سوقهم إلى المحكمة، لعدم تأخير القضية”، فردّت هيئة المحكمة، برئاسة القاضي داني شبلي بـ”أنها تؤدي واجبها ضمن صلاحياتها، ومسؤولية سوْق الموقوفين تعود إلى قوى الأمن الداخلي”.
جاء احتجاج الرفاعي بعدما ضاق ذرعاً من مسلسل تأجيل جلسات المحكمة المتوالي منذ إحالة المتهمين الخمسة إلى القضاء، بسبب عدم نقلهم من سجن رومية المركزي في بيروت، والذي يبعد 85 كيلومتراً عن مقر المحكمة، في ظاهرة آخذة بالتوسع منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2019، كما يقول المحامي عبد الرحمن حسن، وكيل عائلة الضحية الرفاعي، محذراً من “تعطيل العدالة بسبب أزمة السوق، إذ بات تأجيل الجلسات مؤشراً خطيراً على شلل ملفات حساسة، وعلى الدولة التحرك لتأمين الإمكانات اللوجستية، وإلا سندخل مرحلة ضياع الحقوق”.
يتضح ما ذهب إليه حسن عبر البيانات الرقمية، إذ انخفضت نسبة تنفيذ قوى الأمن لطلبات سوق المتهمين إلى جلسات محاكماتهم من 77% عام 2019 لتصل إلى 45% في عامي 2020 و2021، ثم ارتفعت إلى 67% في عام 2023، قبل أن تتراجع مجدداً إلى 57% عام 2024، بحسب دراسة “إدارة التوقيف الاحتياطي: تحديات ما بعد الأزمة في لبنان”، الصادرة في سبتمبر/أيلول 2024، عن “المفكرة القانونية”، منظمة غير ربحية للأبحاث والمناصرة.
“يعتبر عدم سوق المتهمين للمثول أمام المحكمة أحد أسباب تأخير المحاكمات في لبنان، وبعد الانهيار المالي، لم تعد هناك عناصر كافية للقيام بهذه المهمة، والكثيرون تركوا الخدمة بسبب الرواتب الزهيدة”، كما يقول مصدر مسؤول في إدارة أحد السجون، تحفّظ على ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث مع وسائل الإعلام، ويقدر عدد عناصر الأمن الداخلي بين 25 ألفاً و 30 ألف عنصر حتى نهاية عام 2023، ويُكلف هؤلاء بمهام عديدة، من بينها سوق الموقوفين إلى الهيئات القضائية، ويضرب المصدر أمثلة على نقص العناصر بقوله إن تسعة فقط يعملون في مخفر مخيم برج البراجنة الرئيسي في قضاء بعبدا بمحافظة شمال لبنان، والذي يعرف باكتظاظه، وفي مخافر طرابلس الكبرى شمالاً (وتشمل بلدات الميناء، والتل، والقبة، والسويقة، وأبي سمراء) لا يتجاوز عناصر الأمن الستين.
ومن الناحية التقنية، فإن عملية اقتياد المتهمين إلى المحاكمة تحتاج إلى شاحنة كبيرة تضم الموقوفين، وسياراتي مرافقة في الحد الأدنى، أي إنها تتطلب 10 عناصر أمن، والرقم مرشح للارتفاع في الملفات الخطرة، بحسب المصدر الأمني السابق، وهو ما تؤكده المحامية والباحثة غيدة فرنجية التي شاركت في إعداد الدراسة السابقة، موضحة لـ”العربي الجديد” أن الموارد المتاحة لقوى الأمن الداخلي من أجل تأمين سوق الموقوفين غير كافية لضمان حسن سير العملية، نتيجة النقص الحاد في الآليات المخصصة والعناصر، وأبرز مثال على ذلك، سجن رومية، يوجد فيه 80 عنصراً موكلة إليهم مهمة السوق، إلا أن 31 منهم فقط يقومون بها، أما الآخرون فيكلفون بمهام أخرى، ومن بين 83 آلية مخصصة لجلب الموقوفين، فإن الصالحة منها خمس فقط، وتبلغ قدرتها الاستيعابية القصوى بين 80 و90 موقوفاً يومياً، ويمكن أن يرتفع عدد الآليات إلى عشر في حال جرى إصلاح خمس أخرى تسمح حالتها بإعادتها للخدمة.
وبينما يربط العميد، جوزيف مسلم، مسؤول شعبة العلاقات العامة سابقاً في قوى الأمن الداخلي بلبنان، أزمة عدم السوق بمشاكل تقنية، كالأعطال الميكانيكية، نتيجة قلة المخصصات المالية للصيانة الدورية أكثر منها أزمة وقود ومحروقات، وهو ما تعمل المؤسسة على معالجته، متحدثاً عن “تعاون قوى الأمن مع بعض الجمعيات المانحة لتخفيف وطأة الأزمة”. يرفض المحامي محمد صبلوح، مدير برنامج الدعم القانوني في مركز سيدار للدراسات القانونية (غير حكومي)، الربط بين مشكلة عدم السوق والأزمة المالية، مؤكداً أن التأجيلات كانت تحدث حتى قبل عام 2019 بسبب جملة من العراقيل، مثل ضيق قاعات المحاكم، وعدم توفر الموارد المالية والموارد البشرية التي يحتاجها النظام القضائي لتسيير الأمور بشكل فعال، ويشمل ذلك: التمويل غير الكافي لتشغيل المحاكم، مثل تكاليف صيانة القاعات، ودفع أجور الموظفين، وتأمين مركبات النقل، وتجهيز المرافق الضرورية.
وجهان لعملة واحدة
تنظر فرنجية إلى الاكتظاظ في أماكن التوقيف وأزمة السوق على أنهما وجهان لعملة واحدة، وفق معادلة أن الاكتظاظ يعد عاملاً أساسياً في مفاقمة التحديات أمام جلب الموقوفين إلى قصور العدل، في ظل نقص الموارد المخصصة لذلك، وبالتالي إعاقة تسريع الإجراءات القضائية ما يترتب عليه ازدياد أعداد الموقوفين لدى القطاعات الأمنية، وكذلك، فإن انخفاض إنتاجية العمل القضائي يؤدي إلى إطالة أمد التوقيف، وبالتالي إلى ارتفاع نسبة الاكتظاظ في أماكن الاحتجاز، وعليه تغذي الدوامة نفسها.
ويشكل الاكتظاظ في سجن رومية شرقي بيروت مثالاً واضحاً، إذ يضم 3619 موقوفاً ومحكوماً، بحسب أحدث إحصائية أصدرتها لجنة السجون في نقابة المحامين ببيروت في 21 أغسطس/آب 2024، بينما طاقته الاستيعابية القصوى 1200 سجين فقط، وهذه الحال تشكل تحدياً كبيراً في إدارة السجن وضمان حقوق السجناء، وينسحب هذا الأمر على السجون الأخرى، إذ أصبح الاكتظاظ هو القاعدة.
57 % فقط من طلبات اقتياد المتهمين للمحكمة نُفذت العام الماضي
أمّا بالنّسبة لمراكز الاحتجاز، فالأعداد الكبيرة هي المشكلة الأساسية فيها أيضاً، لا سيما في تلك التّابعة لمديريّة قوى الأمن الدّاخلي، علماً أن الطاقة الاستيعابية في جميع سجون لبنان من السجن المركزي إلى السجون الفرعية ونظارات قصور العدل لا تتعدى 3000 محتجز أو موقوف ومحكوم، بينما عدد الموقوفين حالياً في لبنان يتجاوز 7800 حالة، وهو ما حوّل النّظارات ومراكز الاحتجاز إلى سجون دون أن تستوفي مقوّمات السجون فعلياً، وفق ما جاء في التقرير السنوي للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان لعام 2023 (مستقلة تمولها الدولة).
وتضع أزمة الاكتظاظ العدالة في مأزق جديد، إذ تلجأ قوى الأمن الداخلي إلى إيداع عدد من السجناء لدى الجيش اللبناني “على سبيل الأمانة”، نتيجة نقص القدرة الاستيعابية في السجون. “ويخلق هذا التداخل في المسؤوليات حالة من الضياع الإداري”، يقول صبلوح، موضحاً “عند مراجعة الشرطة العسكرية للمطالبة بموقوفين، يكون الرد بأنهم ليسوا لديها، بل بعهدة قوى الأمن الداخلي، التي بدورها ترفض سوقهم إلى المحاكم بحجة عدم توافر الوقود”.
وتقدّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أن أكثر من 80% من الموقوفين لديها هم مودعون على سبيل الأمانة لحساب قطعات أخرى، بحسب دراسة التوقيف الاحتياطي آنفة الذكر، ما يعني امتدادًا للمشكلة، لأن عمليات السوق تصبح أكثر صعوبة في الحالات التي يتعذّر فيها الموقوف “على سبيل الأمانة” في قطعة أمنية مختلفة عن تلك التي أوقفته. ويضرب صبلوح مثالا على ذلك يظهر حجم الخلل قائلا: “في إحدى الحالات طلبت المحكمة 10 موقوفين للمثول أمامها، لكنهم كانوا موزعين على عدة سجون لدى جهات مختلفة، وحضر تسعة منهم، لكن تغيب واحد أدى إلى تأجيل النظر في الملف بأكمله لستة أشهر”.
“يتكرر الجواب نفسه في كل مرة نطلب فيها سوق الموقوفين: لا تتوفر الإمكانيات للتنفيذ”، يقول المحامي صبلوح بحدّة، مستشهداً بتجاربه: “لدي موقوف قاصر محتجز في سجن رومية، وملاحق بعدة ملفات في شمال لبنان، إلا أن قوى الأمن لا تجلبه للمحكمة بحجة عدم وجود جلسات لموقوفين آخرين في الوقت نفسه”، بينما يُساق إلى الجلسات حين يتم تجميع أعداد كبيرة من الموقوفين.
“ويُعد تأخير سوق الموقوفين لانتظار تجميع عدد كافٍ منهم لإرسالهم في شاحنة واحدة، أحد العوائق الإجرائية المتكررة التي تعرقل انتظام الجلسات، وتؤثر سلباً في سير العدالة، وهو ما حصل مع موقوف آخر في سجن القبة بطرابلس، يتولى صبلوح قضيته، ويجب مثوله أمام محكمة جنايات الأحداث في قصر العدل في بيروت، إلا أن جلساته تأجلت على مدار ثلاثة أشهر، بذريعة أنه لا يمكن تحمل تكاليف السوق والنقل من أجل متهم واحد، واستمر هذا الأمر إلى الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط 2025، وفقاً لصبلوح.
وتؤثر هذه التحديات بشكل مباشر على حق الدفاع، طالما تعوق وصول المحتجزين إلى قصور العدل للمثول أمام المحاكم، بحسب فرنجية. وهو السبب في وجود 67% من السجناء غير المحاكمين في لبنان، بحسب تصريحات صحافية لوزير العدل عادل نصار في السابع من إبريل/نيسان 2025.
“بالتالي ينتج عن الأزمة احتجاز أبرياء لأعوام في السجون، كما هو الحال مع المتهمين في أحداث مخيم نهر البارد التي اندلعت في 20 مايو/أيار 2007، إذ وقعت اشتباكات بين الجيش اللبناني ومسلحي جماعة فتح الإسلام التي ظهرت في المخيم عام 2006، ما أدى إلى تفجير الوضع العسكري، وبعد 3 أشهر سيطر الجيش اللبناني على المخيم بالكامل، واعتقل كل من يشتبه بارتباطه بالجماعة، لكن لم تنعقد محاكماتهم مطلقاً، وعند مراجعة الوكلاء القانونيين للمعنيين في الوسطيْن السياسي والقضائي، كانت الذريعة الدائمة: لا توجد قاعة تتسع لنحو 500 مدعى عليه، وبعد 14 عاماً من الانتظار، حصل 45 موقوفاً منهم على أحكام بالبراءة، فيما لم تتجاوز أحكام أكثر من 170 آخرين السنة ونصف أو السنتين، ما يعني أنهم خسروا 12 عاماً من أعمارهم خلف القضبان دون محاكمة، كما يقول صبلوح: “العدالة يجب أن تأتي في وقتها ولا تتأخر”.
تظهر هذه الإشكالية جلياً أيضا في قضية الشيخ أحمد الأسير، الذي أوقف عقب اشتباكات دامية بين أنصاره والجيش اللبناني في مدينة صيدا عام 2013، ويوضح المحامي محمد صبلوح الذي تولّى الدفاع عن الأسير في وقت سابق، أنه كان يُلاحق أمام جهتين قضائيتين في آن واحد: المحكمة العسكرية ومحكمة الجنايات في بيروت، وكان يُساق إلى المحكمة العسكرية بانتظام، فيما كانت جلساته أمام الجنايات تتعطّل مراراً بسبب عدم سوقه”. ويضيف أن “السبب المعلن حينها كان أن وضعه حساس طائفياً، ولا يمكن سوقه مع موقوفين من طوائف مختلفة”، مشيرًا إلى أن القوى الأمنية كانت تتذرّع أيضًا بـ”عدم توفر سيارة إضافية” لنقله. والمفارقة، بحسب صبلوح، أن المحكمة المدنية نفسها تدخّلت مرارًا للمطالبة بسوق الأسير، لكن من دون جدوى، بينما استمرت المحكمة العسكرية في محاكمته بشكل طبيعي، بسبب ما وصفه بـ”هيبة القضاء العسكري” لدى الضابطة العدلية.
العمود الفقري لتحقيق العدالة
هذا الخلل الإجرائي لا يقتصر على حالة واحدة، إذ تجمع مصادر التحقيق على أن “عدم السوق” أصبح ظاهرة مقلقة، تؤدي إلى تأجيلات متكررة لجلسات المحاكمة، من دون علم القضاة أو المحامين بذلك إلا عند بدء الجلسة واكتشاف غياب المتهم. ويصف المحامي المتخصص في القضايا الجنائية أحمد البياع هذا التأخير بأنه “انتهاك مزدوج” قائلاً: “سرعة التقاضي هي العمود الفقري لتحقيق العدالة، وكلما طال أمد المحاكمة، طال الظلم، ليس فقط الموقوفين، بل أيضًا أهاليهم والمجتمع بأسره”.
“القضاة يتولون مهام تفوق قدراتهم وطاقتهم”، هكذا علق قاض لبناني، يحتفظ “العربي الجديد” باسمه لكون العاملين في سلك العدالة غير مخولين بالتواصل مع وسائل الإعلام، على الحالة التي يعملون فيها قائلًا: “كل قاضٍ موكل بأكثر من محكمة، والبعض على عاتقه أربع مهام”، مع ذلك لا تقصير في متابعة الملفات، والتأخير خارج عن إرادة القضاة “لأن سوق الموقوفين يقع على عاتق الأمن”، ولا بد من إيجاد حل عام وشامل للمشكلة حتى لا ندور في حلقة مفرغة، ولا بد من تكثيف تفقد السجون كما ينص القانون للتأكد من عدم وجود نزلاء غير محكومين وهي مهمة منوطة بالقضاة لأن “توقيف شخص لفترات طويلة من دون إثبات الجرم يتنافى مع جوهر العدالة” كما يقول المحامي المتخصص في القضايا الجنائية البياع.