في شهادة مؤلمة تكشف عمق المأساة الإنسانية في قطاع غزة، روى أحد النازحين تفاصيل رحلة محفوفة بالموت خاضها من أجل تأمين الغذاء لأطفاله الذين “يبكون طوال الوقت من شدة الجوع”، مشيرًا إلى أن ما تبقى من غذائهم يعتمد على وجبات عدس قليلة تقدمها مطابخ خيرية، “لا تكفي لإشباع أطفالي السبعة”.
يعيش الراوي، وهو سائق تاكسي سابق فقد عمله بسبب الحصار ونفاد الوقود، في خيمة بمنطقة السرايا وسط مدينة غزة مع زوجته وأطفاله ووالديه، بعدما دُمّر منزله في مخيم جباليا خلال الاجتياح الإسرائيلي لشمال القطاع في أكتوبر 2023.
يقول الرجل إنه لم يذهب سابقًا لتلقي المساعدات منذ بدء الحرب، غير أن تدهور الوضع الإنساني أجبره على التوجه إلى مركز لتوزيع المساعدات الغذائية تديره مؤسسة مدعومة أميركيًا، يقع على طريق صلاح الدين قرب ممر نتساريم جنوب مدينة غزة، مبيناً أن زوجته وابنته (13 عامًا) شجعتاه على القيام بالرحلة.
رحلة ليلية محفوفة بالموت
في 18 يونيو/حزيران، وعند الساعة التاسعة مساءً، انطلق الأب برفقة 5 رجال، قرروا الانضمام إلى مجموعة من 17 شخصاً، بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عامًا، وانطلقوا من خيام النزوح باتجاه مركز المساعدات الإنسانية المزعومة. ركبوا “توك توك” مع أطفال ونساء، ثم أكملوا المسير مشيًا في الظلام لمسافة كيلومتر، متجنبين الطريق الرسمي الذي حدده جيش الاحتلال، خوفًا من الاكتظاظ والقتل المحتمل.
ويمضي الرجل في سرد حكاية طريق المساعدات المعبدة بالدم لموقع ميدل إيست آي: “أنزلنا التوك توك في النصيرات، في وسط غزة، ومن هناك مشينا حوالي كيلومتر واحد باتجاه شارع صلاح الدين. كانت الرحلة شاقة للغاية ومظلمة. لم نكن نستخدم المصابيح حتى لا نلفت انتباه القناصة والمركبات العسكرية الإسرائيلية”.
عبرت المجموعة مناطق مكشوفة زحفًا على بطونهم. وبينما كانوا يسيرون، فتح علينا وابل من الرصاص، “اختبأت خلف مبنى مدمر. كل من تحرك أو قام بحركة ملحوظة كان يتم إطلاق النار عليه على الفور من قبل القناصة. كان بجانبي شاب طويل القامة، أشقر الشعر، يستخدم مصباحًا يدويًا على هاتفه ليرشده. صرخنا عليه ليُطفئه. بعد ثوانٍ أطلق النار عليه”.
ويردف بأسى مستحضرًا مشهد الشاب أمامه: “انهار على الأرض وظل ينزف. لم يستطع أحد مساعدته أو تحريكه. استشهد في غضون دقائق. قام بعض الرجال القريبين منه بتغطية جثته بكيس فارغ أحضره معه لملئه بالمعلبات.
ويتابع: “رأيت ست شهداء على الأقل، وجرحى يحاولون الزحف عائدين. ومع ذلك، استمريت في التقدم، مدفوعًا بالجوع والخوف على أطفالي. سقطتُ أنا أيضًا عدة مرات. كنتُ مرعوبًا، لكن لم يكن هناك مجال للتراجع. كنتُ قد تجاوزتُ أخطر المناطق، والآن أصبح مركز المساعدات على بعد أمتار”.
الفوضى عند مركز المساعدات
ومع اقتراب الساعة الثانية صباحًا، أُضيء ضوء أخضر فوق مركز التوزيع، ما كان يعني بدء الدخول. اندفع الآلاف باتجاهه في مشهد وصفه الناجي بـ”المفزع. حاولت التقدّم وسط التدافع، وأنا اسأل نفسي عن الحشد الهائل، أين كان؟ هل كانوا يعملون مع الجيش؟ هل كانوا متعاونين، وسُمح لهم بالوصول إلى المساعدات أولاً وأخذ ما يريدون؟ أم أنهم ببساطة تحمّلوا نفس المخاطر التي تحمّلناها، إن لم تكن أكبر؟”.
حاول التقدم وسط الزحام، فخلع حذاءه ووضعه في حقيبته ليتمكن من التحرك، “كنت فوق الآخرين، وآخرون فوقي. لاحظ فتاة تختنق تحت الأقدام، فأمسكت يدها وسحبتها للخارج. أمسكت كيسًا بدا كأنه أرز، لكن أحدهم انتزعه مني وهددني بسكين.. نعم معظم من هناك كانوا يحملون سكاكين، إما للدفاع عن أنفسهم أو لسرقة غيرهم”.
وسط الفوضى، حصل الشاهد على “مصائد الموت” بصعوبة على أربع علب فاصوليا، وكيلو برغل، ونصف كيلو معكرونة. بينما لم يحصل معظم الحضور، بمن فيهم النساء وكبار السن، على شيء، “حتى المنصات الخشبية التي نُقلت عليها المساعدات تم أخذها لوقد الطبخ. وبدأ من لم يحصلوا على شيء بجمع الفتات المسكوب من الأرض”.
جنود يصورون ويضحكون
وسط هذا المشهد السريالي، رأى الرجل جنودًا إسرائيليين على بعد 20 مترًا منه، “يصوّرون بهواتفهم، ويضحكون. المشهد ذكّرني بمسلسل لعبة الحبار الكوري. شعرت أننا في نسخة حقيقية منه. كنا نُقتَل بالجوع والرصاص والإذلال، وهم يشاهدوننا ويضحكون. ربما كانوا يبثّوننا مباشرة، يراقبون من ينجو ومن يُسحق تحت الأقدام!!”.
يقول: “بدأتُ أتساءل: هل ما زالوا يصوّروننا؟ هل كانوا يشاهدون هذا الجنون، ويرون كيف تغلب البعض على الآخرين، بينما لا يحصل الأضعف على شيء؟”.
بعد انتهاء التوزيع، أُطلقت قنابل دخانية في السماء، كإشارة للإخلاء وفق ما أخبره أحدهم، تبعها إطلاق نار كثيف. أخذ الرجل المدفوع بالجوع إلى تلك المقتلة طريق مستشفى العودة في النصيرات، حيث أصيب صديقه بيده. هناك رأى 35 جثمانًا لشهداء ممددين في ممرات المشفى، جميعهم أُصيبوا بطلقات في الرأس أو الصدر أثناء وقوفهم قرب مركز المساعدات.
يقول: “بدأتُ أشعر بالانهيار وأنا أنظر إليهم، أفكر بعائلاتهم. تخيلت نفسي مكان أحدهم. أسأل نفسي: لماذا نُجبر على الموت فقط لإطعام أطفالنا؟!، في تلك اللحظة قررت أنني لن أذهب مرة أخرى”.
عودة خائبة وكرامة مهدورة
سيراً على الأقدام، وصل الرجل إلى خيمته عند السابعة والنصف صباحًا، حافي القدمين تقريبًا، محمّلًا بخيبة أمل وألم، فيما كانت زوجته وأطفاله ينتظرونه بلهفة. “انزعجوا حين رأوا أنني عدت بلا شيء تقريبًا”، قال، مضيفًا: “كان ذلك أصعب يوم في حياتي، لم أشعر بالإهانة كما شعرت في ذلك اليوم”.
ويعبر الرجل عن استيائه من الفوضى التي تُدار بها عمليات توزيع المساعدات، والتي اعتبرها متعمّدة لإدامة معاناة الفلسطينيين، “يُقال إن هذا هو الحل الوحيد حتى لا تسيطر حماس على المساعدات!!، لكنني لست حماس، وكثيرون غيري كذلك. لماذا نعاني؟ لماذا نموت لأجل كيس طحين؟”، لماذا ينتهي الأمر بمعظم الناس بلا شيء، لعدم وجود نظام منظم، وقلة المساعدات المقدمة؟!!”.
ويؤكد الراوي أنه لم يعد مهتماً إذا ما انتهت الحرب أو استمرت، “ما يهم هو أن يصل الطعام، ويوزع بعدالة دون إذلال أول قتل”، ليختم شهادته الموجعة عن مصائد الموت، بما يعيشه طفله يوسف، البالغ ثلاث سنوات، والذي يشبهه مئات الآلاف من أقرانه في غزة، “يستيقظ باكيًا كل ليلة طالبًا الطعام، ولا نملك ما نقدمه له. أحيانًا لا آكل ليتناول أطفالي وجبتهم. هذه ليست حياة، بل موت بطيء”.