أسعد أبو خليل
انتشى حزب الله، وعن حقّ، بنصره الكبير في حرب تمّوز وتبخّرت كلّ التشويهات التي تعرّض لها الحزب من الإعلام السعودي والإماراتي المتحالف مع إسرائيل.
بين حرب تمّوز و«طوفان الأقصى»
أصبح لنصرالله هالة كبيرة واستطلاعات الرأي حول شعبيّته في العالم العربي قَضّت مضاجع الصهاينة في واشنطن وتل أبيب وعواصم الخليج. أصبح في العالم العربي «عبدالناصر» آخر، لكنْ بقوّة عسكريّة أكبر وبقدرات محور يمتدّ من طهران إلى بيروت. الكلام عن «الهلال الشيعي» عبّر عن تخوّف من انطلاق محور للمقاومة يحمل أجندة تتناقض مع أجندة قمّة بيروت، والتي استجْدَت السلام مع إسرائيل- لإنقاذ سمعة السعوديّة الغربيّة من ورطة 11 أيلول.
لكنْ، كلّ العالم العربي الرسمي وافق على الأجندة، والنظام البعثي السوري وافق على الشروط مقابل المال، كعادته في التعامل مع المطالب السعوديّة. لا، وفرض النظام السوري ضغوطات على حُكم إميل لحّود لأنّه أراد الإصرار على حقّ العودة، فيما كان ياسر عرفات مُكلّفاً من سعود الفيصل بتناسي حقّ العودة لتفويت الفرصة على إميل لحّود (حسناً فعل لحّود في طمْس كلمة عرفات المشبوهة).
تعامل الحزب في البداية مع نصره بشيء من التواضع وأهدى نصره لكلّ اللّبنانيّين، مع أن أكثر من نصف لبنان (ربما) وقف في جانب إسرائيل متمنّياً النصر لها. وثائق «ويكيليكس» فضحت المستور: كلّ قادة 14 آذار وإعلامييه وقفوا مع إسرائيل وكان الياس المرّ يُسدي النصح الطائفي لجيش العدوّ عبر الديبلوماسيّين الأميركيّين، فيما كان بطرس حرب يحثّ العدوّ على التقدّم على أرض لبنان، كأنّ عدم التقدّم في الجنوب كان خياراً لا اضطراراً بسبب قوّة المقاومة ومناعتها. لكنّ إسرائيل بدأت منذ انتهاء المعركة وقبل تحقيق لجنة فينوغراد بالتحضّر للحرب المقبلة.
كانت مسألة وقت. علمت إسرائيل أنّ ما أصاب صورتها في العالم العربي يحتاج إلى حرب مقبلة لتغيير الأمزجة. أصبحت السخرية من «الموساد» ومن قدرات جيش العدوّ مادة للتندّر (منّي ومن غيري) على المواقع والشاشات. لم تعتَد إسرائيل على المهانة والمذلّة. عقيدتها المؤسِّسة اعتمدت على التخويف والترهيب وتعظيم أسطورة موسادها. فريق 14 آذار كان في حالة حداد. لم يتصوّر أنّ ميليشيات لبنانية (سمِّها ما شئت) تستطيع أن تُلحِق بالعدوّ هزيمة أكبر ممّا لحقه من جيوش عربيّة جرّارة في تاريخ الصراع. تكافلت إرادات أنظمة الخليج والغرب وإسرائيل لإعداد خطّة المواجهة المقبلة.
مؤامرة 5 أيّار
المؤامرة هذه كانت إسرائيليّة المنشأ والتخطيط والتنفيذ. حكومة السنيورة كانت تأتَمر من قِبل اللّوبي الإسرائيلي على لسان السفير الأميركي. المعلومات عن شبكة اتّصالات المقاومة كانت مهمّة، لأنّها كانت منيعة في الحرب. لم يستطع العدوّ أن يخرقها أو أن يصيب أيّاً من قادة الحزب بأذى في تلك الحرب.
كانت الصيانة والحماية الأمنيّة على درجة عالية جداً من القوة والمناعة. حكومة السنيورة تشاركت في المقاصد والأهداف مع إسرائيل قبل الحرب وأثناءها وبعدها. الشبكة كانت أولويّة عند إسرائيل والتعامل معها شكّل الخطوة الأولى في خطّة الانتقام الإسرائيليّة الكبرى. جال مروان حمادة على سفارات الغرب، مع خرائط، لتنبيه الغرب، كأنّ الحكومة تتضايق من شبكة لا يمكن أن تضايق غير إسرائيل. وزراء فساد مستشرٍ نهشوا الدولة أصبحوا من حُماة الدولة ومن دُعاة تقويتها.
الوزراء في تلك الحكومة، بحسب «ويكيليكس»، كانوا يشاركون السفارة الأميركية بمشاريع قبل عرضها على مجلس الوزراء. وبالتوازي مع تلك المؤامرة، كانت السعودية تبني ميليشيات سنّية خاصة بها لتقوم بما عجزت إسرائيل عن القيام به. أرادوا إشغال الحزب بحرب مذهبية طاحنة لتشتيت قواه العسكريّة في مواجهة إسرائيل. قال سعود الفيصل بعد انهيار الميليشيات الحريريّة: كنا نطعمهم وجبات ساخنة على حسابنا وما صمدوا ساعة في وجه الحزب. استُدرج الحزب ووقع في فخّ المواجهة التي أصبحت بالتحريض طائفيّةً ومذهبيّة. بدأ تسديد الحساب ضدّ الحزب من رصيده الوطني والقومي والإسلامي.
الحزب عوَّل على نصره وربّما افترض أنّ إسرائيل ستخوض الحرب المقبلة بوسائل الحرب الماضية نفسها: لا نعلم آليّة صنْع القرار العسكريّ في الحزب، لكنّ نتائج الحرب الأخيرة توحي بذلك
هل كان هناك خيار آخر أمام الحزب؟ بالتأكيد. كان عليه أن يصرف النظر عن الخيار العسكري على سهولته. القوة التي أذلّت إسرائيل على أرض المعركة لم تحتج إلّا إلى ساعات لهزيمة ميليشيات طائفيّة لا تتحرّك إلّا بالحاجة الماليّة. انهارت ميليشيات الحريريّة السعوديّة وبسط الحزب نفوذه على بيروت ومناطق أخرى. اخترع الحزب التقدمي الاشتراكي بطولات وهميّة لرفع المعنويّات المنهارة. لكنّ الثمن كان باهظاً جداً وفسدت علاقات الحزب الطائفية في بلد طائفي مع معظم الدروز والسُّنّة. كان هناك عدد من التجاوزات بما فيها حرْق مبنى وسيلة إعلاميّة.
ما كان على الحزب إبداء الخشية من أصوات معارضة له، وهو الخارج من نصر تاريخي. صحيح أنّ طرفاً غير الحزب أحرق مبنى المستقبل، لكنْ كان باستطاعة الحزب فرْض انضباط كامل على كلّ عناصر المحور الداخلي. وفي خطابه في هذا اليوم، أعلن نصرالله أنّ الفتنة المذهبيّة قد وُئِدت، فيما هي كانت تنطلق بقوّة في ذلك اليوم. 7 أيار كان عيد الفتنة المذهبيّة التي استهدفت الحزب. كان الحزب يستطيع أن يوقف المؤامرة ضدّ شبكة الاتصلات بالقوّة، لكنْ من دون استعمال القوّة المسلّحة.
بعد 7 أيّار
وبعد 7 أيار، انشغل الحزب بالحُكم ومغانمه وتقسيماته وتسوياته الطائفيّة. أصبحت المشاركة في الحُكم هدفاً لا وسيلة، كما إنّ الحزب بالغ في أهمية البيانات الوزارية متصوّراً أنّ الثلاثيّة عن المقاومة تحمل صيانة القانون الدولي، أو أنّ مقعداً زائداً في الوزارة سيمنع التآمر عن المقاومة. أصبح الحزب يظنّ أنّ المشاركة في الحُكم تمنع المؤامرات، مع أنّ صنْع القرارات المصيريّة في لبنان لم تكن يوماً تجري في داخل قاعات الاجتماع، لا في مجلس الوزراء ولا في مجلس النواب. في زمن السيطرة السورية، كان التفاهم بين الحريري وبري يجري قبل صدور القرارات الرسميّة. وقبل الحرب الأهليّة، كان رئيس الجمهوريّة يتّخذ قرارات ويعقد اجتماعات من دون علم رئيس الحكومة.
وانخراط الحزب في الحُكم قرّبه من قرارات الفساد، ولم يشكّل فريقه الوزاري أيّ تحدٍّ للسياسات الاقتصادية التي أدّت إلى الإفقار والانهيار المصرفي. لم يكن الحزب منزّهاً أبداً. هو كان مسؤولاً مثل غيره، وزادت مسؤوليّته عندما زاد نفوذه في عهد ميشال عون. لم يحارب رياض سلامة ولم يبلور نهجاً مختلفاً عن الأحزاب التقليديّة. استسهل اللّبننة والانخراط الكبير في النظام السياسي اللبناني.
أذكى ما فعله في تلك المدة كان تعزيز التحالف (وإن كان طائفيّاً في الجوهر) مع التيّار الوطني الحرّ. الاتّفاق كان تبادليّاً ونفعيّاً للطرفيْن، ولكنّه خرق الجدار الطائفي الذي كان الحزب أسيراً له. أخرج الحزب من القوقعة وعرّف جمهوره إلى جمهور آخر جهله (ويسري ذلك على التيار وعلى جمهوره). التيار ضخّ ثقافة معادية لإسرائيل وكما ظهر من «ويكيليكس»: كان الأقرب إلى الحزب بين كلّ الأحزاب ولم يخذله أبداً.
والتيار والحزب عقدا تحالفات انتخابية مفيدة للطرفَين. انفرط العقد بين الجانبَين لأنّ الحزب اختار حلفه الطائفي الشيعي مع حركة أمل على أيّ حلف آخر، حتى على الحليف المسيحي المُخلص. لكن خسارة الحزب للتيّار لم تظهر على حقيقتها كما ظهرت في الحرب الأخيرة عندما بدا الحزب وحيداً باستثناء حليفه الشيعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة الشعب. أمام هذه الهجمة الجهنميّة والعالميّة ضدّ الحزب، كان الحزب يحتاج إلى حلفاء. هؤلاء أمّنوا إيواء المهجّرين في حرب تمّوز وقدّموا خدمات إستراتيجيّة للحزب.
الانهيار الاقتصادي
تزامنت تلك المرحلة الحرجة مع انهيار اقتصادي ذريع تفاقم أكثر بعد انهيار المصارف. والفقر والإفقار يولّد حاجة يستفيد منها العدوّ. وتقرأ أرقام المال الزهيد الذي كان العملاء يتقاضونه (باستثناء العميل الأخير، محمد صالح) فتدرك أنّ الساحة اللبنانيّة مفتوحة أمام التجنيد الإسرائيلي، ومن أفراد من كلّ الطوائف. لكنْ هنا تبدو مسؤولية الحزب في عدم أخْذ الأزمة الاقتصادية على محمل الجدّ. الحزب ليس حزباً تقدميّاً (سأذكر أدناه تلك الحملة ضدّ المثليّين التي شنّها الحزب في عام 2023). كانت إسرائيل تعدّ لأكبر حرب ضدّ لبنان، والحزب بالتحديد، فيما انشغل الحزب بشنّ تلك الحرب التي ظنّ، ربّما، أنّها تقرّبه من الرجعية الدينيّة المسيحيّة للتعويض عن خسارة التيار العوني المسيحي.
الحزب في بداياته نطق باسم الفقراء وتحدّث كثيراً عن المستضعفين، تماماً كما إنّ حركة «أمل» بدأت كحركة للتعبير عن آلام المحرومين وتطلّعاتهم. وكما تغيّرت «أمل» والأفق الطبقي لقياداتها، فإنّ الحزب تغيّر بدَوره وأصبح السقف الطبقي لبعض المسؤولين والأعضاء أعلى ممّا كان. غاب همّ الفقراء والمعوزين عن برامج الحزب وأصبح الحزب حزباً تقليديّاً يهادِن حتى رياض سلامة.
لكنّ فشَل الحزب في التعامل مع الانهيار الاقتصادي حوّله إلى حامي النظام وحامي المصارف. لم يتّخذ الحزب موقفاً جذريّاً واحداً ضدّ المصارف (المصارف التي طُرد منها بأمر من الخزانة الأميركيّة). وتمسّك بالنظام اللّبناني أكثر فأكثر ومنَع جمهوره من المشاركة في الاحتجاجات العارمة التي اعترف أمين عام الحزب (في أوّل خطاب له بعدها) أنّها كانت عفويّة، رغم الاستغلال الذي تعرّضت له لاحقاً.
الانهيار الاقتصادي وسرقة أموال الناس يعرّضان جمهوراً كبيراً لخطر الانسياق نحو مخطّطات تجنيد معاد. جمهور الحزب كان صادقاً في الانتفاضة على الفساد في طائفته وطائفة غيره. خاف الحزب، مثل باقي الأحزاب التقليدية أو أكثر قليلاً، من انهيار النظام اللّبناني لأنّه رأى أنّ النظام يحمي تنظيمه. لكنْ هل إنّ النظام حمى تنظيمه أو مقاومته؟ دروس المرحلة الماضية كذّبت الكثير من الشعارات، ليس فقط تلك المُوجّهة ضدّ المقاومة (مثل «حصريّة السلاح») بل أيضاً شعارات مثل «ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة» لأنّها لم تسرِ يوماً (سرت في قسمَين منها عهد إميل لحود، أمّا الشعب فما توحّد يوماً ضدّ إسرائيل منذ عام 1948).
نعلم اليوم أنّ إسرائيل استخدمت كلّ المدة من عام 2006 حتى 2024 للإعداد الدقيق والهادئ لحرب القضاء على حزب الله. كانت حرباً انتقاميّة، لكنْ ليس بالمعنى القَبَلي وإنّما بالمعنى الإستراتيجي. الحزب عوَّل على نصره وربّما افترض أنّ إسرائيل ستخوض الحرب المقبلة بوسائل الحرب الماضية نفسها: لا نعلم آليّة صنْع القرار العسكريّ في الحزب، لكنّ نتائج الحرب الأخيرة توحي بذلك.
(يتبع)