أسعد أبو خليل
سياق «طوفان الأقصى»
لم ينفجر «طوفان الأقصى» مِن فراغ. لم يأتِ من دون سابقات له مِن العنف والعدوان والوحشية الإسرائيليّة. ولم يكن أول رصاصة في تاريخ النضال الفلسطيني، ولم يكن حدَثاً عطّل مسيرة سلام جارية أو مشروع توافق وتحرير كانت الدول العربيّة تحمله في خاصرتها. لا. الطوفان -بصرْف النظر عن المناقشة فيه، كما أدناه- كان نتيجة يأس وخيبة فلسطينيّة شعبيّة، ولم يكن من الممكن حصار الشعب الفلسطيني في غزّة وتقييد وحداته الحراريّة من دون عواقب.
هو حدثٌ لا يختلف عن انفجار الشعوب المحاصَرة والمضطهَدة. وارسو غيتو لم يكن أفظع من وحشية غزة: ثارَ اليهود المحاصَرون فقام الجيش النازي بقتل 13 ألف يهوديٍّ وشحن أكثر من 40 ألفاً إلى معسكرات الموت. إنّ وحشية إسرائيل تفوق الوحشيّة النازيّة في هذه الحالة على الأقل، مع عدم نجاعة إجراء المقارنات التاريخية في الوحشيّة والإجرام. «طوفان الأقصى» يرتبط بتاريخ يمتدّ إلى الثلاثينيات والثورة الفلسطينية الأولى. النكبة وحدها لا تفسّر. هي ثورة ضدّ قرن من الظلم، وأي محاولة لفصْلها عن سياقها يخدم حرب الإبادة الإسرائيلية.
جرّب الفلسطينيّون في غزّة وسائل وطرائق عدّة. جرّبوا المظاهرات فقُتلوا. جرّبوا طائرات الورق فقُتلوا. جرّبوا البوالين فقُتلوا. لم يتركوا وسيلة عنفية أو سلميّة لم يجرّبوها. السنوار أعدّ غزة حصناً منيعاً رغم الحصار الخانق. كان يعلم أنّه لا يواجه إسرائيل وحدها بل أدواتها أيضاً في حركة «فتح» وعملاء الأنظمة العربيّة المنتشرين، بالإضافة إلى نظام السيسي الذي يجعلك تنظر بإيجابيّة إلى نظام مبارك بالمقارنة.
السيسي وجد أنّ ضمان قمعه وظلمه يعتمد على تشديد الخناق على الشعب الفلسطيني (وخلفيّته في المخابرات الحربيّة لم تكن إلّا تمريناً لمشروع خدمة إسرائيل واحتلالها). السنوار طهّرَ غزّة من العملاء بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل (لا في لبنان ولا في إيران رغم صعوبة مقارنة السياقات الجغرافيّة). استعدَّ لليوم الكبير مستعيناً بالسخاء الإيراني في دعم حركات المقاومة ـــ وهذا الدعم هو الذي جلب الويلات للنظام الإيراني.
لكن: «طوفان الأقصى» كان مشروعاً أكبر من طرف واحد في محوَر كبير. للسنوار حساباته الأمنيّة المهمة، ولكنّ قراراً من هذا النوع سيورّط بالضرورة عناصرَ محوره الأوفياء. كان واجباً عليه البحث والتنسيق. لكن من ناحية السنوار: لم يكن يثق بالأمن في تنظيم حلفائه. شعر بالخروقات وربّما حذّر منها. لم يكن يثق إلّا بتجربته الفريدة. لكن شنّ «الطوفان» من دون التنسيق مع الحلفاء عرّضَ الحلفاء للمفاجأة أمام خصم أقوى بكثير من أعدائه.
ما هي حسابات الربح والخسارة في «طوفان الأقصى» ـــ بالنسبة إلى «حماس»؟ في السلبيّات تستطيع أن تقول:
1) قرار من هذا النوع لا يمكن حصْره جغرافيّاً. هو سيمتدّ وسيفاجئ حلفاء «حماس» ويأخذهم على حين غرّة تماماً مثل العدو.
2) ما هي إمكانية الدفاع لدى «حماس» مع عدوّ سيصاب بالجنون والنازيّة نتيجة العمليّة الإذلاليّة؟
3) كيف يمكن الحفاظ على القوة العسكرية والتنظيمية في عمليّة من هذا النوع من دون أيّ منفَذ أو حليف خارج القطاع؟
4) هل جرى نقاش في «حماس» عن رد فعل العدوّ؟ هل كان هناك فرضيات خطأ من نوع أن العدوّ سيمتنع عن حرْق غزّة للحفاظ على أرواح الإسرائيليّين؟ هل ناقش خبراء إسرائيل في «حماس» (والسنوار منهم) قادة الحركة، وكيف أنّ إسرائيل تغيّرت منذ حرب تمّوز؟ هي أثبتت يومها أنّها لا تأبه لأرواح أفراد من جنودها أو شعبها إذا كان المقابل تهديد عقيدة التفوّق الصهيوني ضدّ العرب.
5) هل جرت مناقشة على أساس حسابات الربح والخسارة من قِبل قيادة الحركة للقرار الإقليمي (والعالمي) الخطير؟
6) كيف تصوّرت الحركة سلامة القيادة بعد التعامل مع ردّ فعل إسرائيل على العملية الجريئة؟
7) هل أعدّت الحركة خطّة للتنسيق مع الحلفاء بعد الإطلاق؟
8) كيف لم تفترض الحركة أنّ عناصر وفرقاً من القطاع ستنطلق عندما تشنّ الحركة «الطوفان» وتفلت الأمور عن السيطرة؟
9) هل أعدّت الحركة فريق تفاوض؟ هل افترضت أنّ إسرائيل ستغتال قادة الحركة في لبنان وسوريا وإيران؟
10) هل كان للحركة خطّة إعلاميّة لشرح عمليّتها إلى العالم؟ لم يكن ذلك واضحاً.
لم ينل الحزب أو إيران أيّ إشادة أو اعتراف من قِبل الغرب على الحرص على حياة المدنيّين في الطرف الآخر. على العكس، كان الغرب يعظّم أيّ إصابة غير مقصودة لمدنيّين في إسرائيل فيما يتجاهل الآلاف من الحالات لاستهداف مدنيّين من قبل إسرائيل
لكن، من الناحية الأخرى:
1) افترضت الحركة أنّ عنصر المباغتة هو الأساس، وهو كذلك في الحرب مع إسرائيل. من عناصر قوّة إسرائيل منذ الثلاثينيّات أنّها كانت دائماً تبادر إلى إشعال الحرب والمعارك. وكان الطرف العربي ملتزماً بنظريّة الأخلاق في المعارك وأنّه يجب ألّا نبادر كي لا يلومنا العالم المتحضّر. وهذه النظريّة روّجت لها أميركا. يروي ويليام كوانت في كتابه «مسيرة السلام» كيف أنّ الرئيس جونسون قال لعبد الناصر عشيّة 1967 إنّ أميركا ستلوم الطرف الذي يبدأ بالحرب وتحمّله المسؤوليّة.
وصدّق عبد الناصر ذلك وانتظر العدوّ كي يباغته وكان أكبر خطأ ارتكبه في تاريخه الطويل والناصع (في معظمه). أميركا ما فتئت تخدع العرب. والعرب انتظروا العدوّ كي يفتح الحرب في 1948 وهو بدأها قبل أشهر من أيّار 1948، ما أعطاهم كالعادة عنصرَ قوّة في المفاجأة. انتظرت الجيوش العربيّة تحقيق القوات الصهيونيّة لموقع متقدّم كي يلمّوا صفوفهم وينفّذوا خطّة بدائيّة (لم يلتزم لبنان بها خلافاً لتوقيعه؛ لأنّ فؤاد شهاب كان وِفقاً لعقيدته العسكريّة يؤمن أنّ لبنان لا صِلة له بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان يرسل التطمينات للصهاينة بأنّ لبنان غير جدّي في التزامه العربي).
حرب 1973 هي الوحيدة التي بدأها العرب وعنصر المباغتة حقّق لأيام إنجازات عسكريّة ما لبث أنور السادات أن حوّلها إلى هزيمة على الجهتَين. الحزب لم يبدأ الحرب في 2006 ونصرالله في مقابلته الشهيرة (التي عرف العدوّ في لبنان كيف يستغلّها ضدّ المقاومة) اعترف أنّه ما كان سيأمر بخطْف الجنود لو أنّه عرف بردّ فعل العدوّ. وتوقّع ردّ فعل العدوّ من أساسيّات الصراع مع إسرائيل والتحضير لتنفيذ الخطط العسكريّة.
الخطأ في الحساب مع إسرائيل أنّها ستلتزم بأخلاقيّات أو بقوانين الحرب. في كلّ معارك العدو منذ الثلاثينيّات من القرن الماضي، قرّر العدوّ أنّه في صراعه مع العرب سيتجاهل كلّ القوانين الدوليّة والأخلاقيّات كي يكسب على الأرض، خصوصاً عندما يعلم أنّ الطرف الآخر سيلتزم بأخلاقيات الحرب. والصديق طريف الخالدي لاحظ أنّ الحزب وإيران في الحرب الأخيرة التزما بصرامة بتجنّب استهداف المدنيّين فيما كان العدوّ يتجاهل أيّ فرق بين المدني والعسكري، لا بل كان يستهدف المدنيّين لترويع الناس بصورة عامّة (حتى الصهيوني توماس فريدمان أصرّ ـــ في خلاف مع رئيس التحرير في «نيويورك تايمز» في 1982 ــــ أنّ إسرائيل تقصف أهدافاً مدنيّة في بيروت الغربيّة، ما أثار امتعاض رئيسه، إيب روزنتال). لم ينل الحزب أو إيران أيّ إشادة أو اعتراف من قِبل الغرب على الحرص على حياة المدنيّين في الطرف الآخر.
على العكس، كان الغرب يعظّم أيّ إصابة غير مقصودة لمدنيّين في إسرائيل فيما يتجاهل الآلاف من الحالات لاستهداف مدنيّين من قبل إسرائيل (فاجعة مجدل شمس مثال لِما يصيب العالم الغربي من هَول إذا تعرّض مدنيّون لقصْف من أعداء إسرائيل. الحزب، بالمناسبة، لم يعرف كيف يردّ على مزاعم العدوّ عن تلك الحادثة التي كانت بمنزلة الهديّة لإسرائيل). السنوار من ناحية التخطيط أدرك أهميّة عنصر المباغتة.
وفي حروب المقاومة في لبنان، لم يُرِد الحزب مباغتة العدوّ في شنّ حرب كبيرة (وهذا مِن أُسس حروب العصابات) وكان العدوّ هو المبادر دوماً لفتح الحروب وشنّها ضدّنا. حرب تمّوز كانت حرباً شنها العدوّ، رغم سرديّة أنصار إسرائيل في لبنان (أتباع السعوديّة والإمارات والغرب) من أنّ الحزب هو الذي يتّخذ قرارات الحرب والسلم. السنوار أدرك أنّ الطريقة الوحيدة لفتح كوّة في الصراع العسكري يكمن في مفاجأة العدوّ لأنّك الطرف الضعيف جداً بالمقارنة.
2) عرف السنوار أهميّة السرّية في العمل العسكري وحافظ على سرّية العمل وموقع القيادات أكثر بكثير من الحزب في لبنان. صحيح أنّ المقارنة بين الساحتَين لا يجوز نظراً إلى الموقع الجغرافي والحصار الوحشي الذي يخضع له القطاع منذ 1967، والذي اشتدّ بعد «الانسحاب» الإسرائيلي منه في عام 2005، ولكنّ العمل الأمني للسنوار ضيّق مجال حرية العمل لاستخبارات العدوّ. ولبنان بلد منفتح تاريخيّاً ومُرحِّب في قطاعات مختلفة منه بالوجود الإسرائيلي.
لبنان تاريخيّاً بلد مفتوح أمام الإسرائيليين وعملائهم، وبتعاون مع أجهزة الدولة في سنوات قبل الحرب حتى الطائف. عمليّات إيلي كوهين انطلقت من لبنان وهو وصل إلى لبنان من الأرجنتين في 1962، وكان هناك من ينتظره في لبنان كي يصطحبه إلى دمشق. الساحة الفلسطينيّة مخترقة من قِبل أنصار إسرائيل من جماعة السلطة. والسنوار استبق انقلاباً إسرائيلياً-فتحاوياً في 2007، وهذا جانب آخر من قدرة السنوار ومهارته في استباق أعدائه.
هذه نقيصة في ممارسة الحزب في لبنان، لأنّه كان يحسب ألف حساب وحساب قبل القيام بأيّ خطوة وحتى في 7 أيّار كان متأخّراً في التعامل مع خطّة مفضوحة لإشعال الفتنة المذهبيّة ولفضْح شبكة اتّصالاته كي يشلّ عمل المقاومة ضدّ إسرائيل. السرّية الفائقة هي التي حمت قيادة حماس في غزّة. صحيح أنّ العدوّ قتل الكثيرين من «حماس»، ولكن ذلك كان بسبب القصف العشوائي الذي أصاب عشرات الآلاف من الناس. هو لم يصل إلى السنوار، وقتله مصادفة من دون أن يدري هويّة هذا المقاتل.
3) استفاد السنوار من نمط معيشي يعيش فيه قادة «حماس» بين الناس وليسوا منعزلين عنهم. لم يكن ذلك الوضع في لبنان في تجربة منظمة التحرير. كان القادة يعيشون في الكثير من الأحيان في شقق في أماكن فخمة (اغتيالات 1973 للقادة الفلسطينيّين جرت في شارع فردان)، أمّا قادة المقاومة في لبنان، فاختلف الوضع بين قائد وآخر.
الفصل بين الناس وبين قادة المقاومة كان خطأ مميتاً في حالة منظمة التحرير. قارِن نمط عيش أفراد سلطة أوسلو في منازلهم المنيفة ونمط حياة قادة «حماس». والمفارقة أنّ الإعلام الخليجي الذي يغطّي محمد دحلان وأوغاد عصابة أوسلو يسخرون من قادة «حماس» ويصفونهم بنزلاء الفنادق الفخمة (ربّما السعودية خلطت بين قادة الحكومة اليمنية الموالية للسعودية وقادة «حماس»).
(يتبع)