آخر الأخبار

بلاد الكفر

1

أيهم السهلي

ربما لا أمل بعد الآن في قيامة شعوبنا العربية في وجه طغاتها، من الحاكمين والمحكومين الذين صار لدى بعضهم شعور بأنهم يحكمون باسم حاكمهم، وهم لا يدرون، على الأقل حتى الآن، أنهم أدوات تُستخدم بعناية لفرض وقائع سلطوية جديدة، ومن بعد ذلك، ستتمّ التصفية، فيبقى من يبقى من أصحاب الولاء المطلق، والبقية تذهب لتؤدّي دورها كمحكومة.

هذه البلاد التي وصفها نزار قباني بأنها «شقة مفروشة» منذ سنوات طويلة، لم تتغيّر، وسيظل كل «زناة الليل» يدخلونها، كأنها حِلٌّ لهم. لا لشيء، بل لأنّ سنوات القهر الطويلة التي لم يعرف غيرها عربنا في المشرق، أنتجت أفراداً لديهم صفات تربطهم ببلدانهم، إنما عند أي محكّ يخص هذه البلاد، سيبحث هؤلاء عن مفرّ لهم، عن سبيل يسمح لهم بالوصول إلى الغرب.

وهذا ما حدث من قبل، وهذا ما يحدث الآن، وهو ما سيحدث في المستقبل. لأن هذه البلاد ليست لأهلها، بل للعصابات التي تحكمها بمسمّيات مختلفة.

■ ■ ■

تعيش هذه البلاد، العربية منها والمستعربة والعاربة كذلك، على وقع مقتلة بدأت قبل أكثر من 7 عقود، ومستمرة حتى هذا اليوم، وهذه اللحظة.

وما بين الوقتين، كانت هذه البلاد تُقتل كل يوم، بالإفساد الممنهج للناس، وهدر المال العام، والمشاريع التنموية. نعم، كان يحدث هذا عبر برامج بمسمّيات «تنموية»، بينما واقع حالها إغراق أكثر وإمعان في التجهيل والتخلّف. من أجل ماذا؟

من أجل الحاكم بأمره، الذي لا يتخيّل على الإطلاق أن يحكم البلاد غيره هو وسلالته. فمن دون أن تكون الجمهورية مملكة، تصير مملكة اسمها جمهورية، وهكذا.

فلا تنمية، ولا تعليم جيد، ولا تطبيب بمواصفات جيدة، وغير ذلك من الكوارث، مع إيهام للناس بأنهم يعيشون بأفضل حال، وفي نعمة تحسدهم عليها بقية الشعوب. ولا يمكن أن يكون هذا الأمر من دون جملة شعارات تتربّى عليها الأجيال، حتى يصبح وجه الأب القائد، كوجه الآلهة، نوره لا يشبهه نور، و«طقمه الكموني» درب ثورتي، ومشهده وهو يطلق النار من بندقيته التي يحملها بيد واحدة، دليل «رجولته»، وبالتالي قوة بلده، وهكذا.

■ ■ ■

يحدث أن تنفجر شعوب هذه البلاد، وما إن تنفجر، حتى تعجّ الساحات بالبشر، وبعد ذلك تقول السلطة إنّ «مندسّين» اندسّوا بين المواطنين، وإنّ «مؤامرة كونية» تحاك لإسقاط الوطن. وبعد إحكام السردية بذكاء أو بغباء، لا فرق، وغير مهم، تبدأ السلطات الحاكمة بالتصرف، فبعد أن تكون قد أجّرت شبّيحتها للشيطان، تنقضّ على باقي الناس، فتبطش بأجسادهم، كما كانت بطشت عبر سنين بحيواتهم وذكرياتهم، فجنّدت الجدران لتكون معها قاتلة لأرواح الشعوب.

ولما تتم هذه السلطات مَهمّتها بقتل الشعوب، وقتل أملها بالتغيير، تتفرّغ لتجريف بقايا الأمل، فتجوّع العباد، وتفلّت على الناس، أمثالها ممّن لا يخافون الله، فيقتلون براحتهم، ويسرقون كل شيء، ويستحلّون ما طاب لهم من النساء. يسمح بهذا الأمر لسبب واحد: سحق الأجيال القادمة، بسحق الروح في أهلهم المستقبليين.

■ ■ ■

أمّا إن تمكّنت إحدى الثورات من تحقيق النصر، فستقدّم سلطات الحكم الجديدة في بلادنا العربية صكوك الطاعة إلى الغرب قبل أن تعتلي الحكم، ومن ضمن ما ستتعهّد به، قهر الناس، حبسها، وقتلها بعد حين، لأنّ المطلوب من شعوب منطقتنا أن تبقى مطواعة، وألّا تفكّر وتطالب بحقوقها. فإن فعلت ذلك، انهارت منظومات دولية، قائمة بسبب التوازنات في هذه الجغرافية من العالم.

وعليه، يجب أن يبقى في هذه المنطقة من العالم، بقع نائية، ممنوع أن تتطوّر، وممنوع على سكانها أن يتعلّموا أو يتثقّفوا أو يشعروا بوجودهم كبشر لهم حقوق إنسانية طبيعية غير الطعام والشراب والنوم والتناسل.

هؤلاء تحديداً، هم أبناء المناطق الغنية التي تنعش باقي البلاد، وفي هذه الأخيرة، مطلوب ألّا يفهم معظم سكانها ظروف عيش هؤلاء، ومطلوب منهم النظر بفوقيّة تجاه هؤلاء، والسخرية منهم، كما مطلوب أن يأتي أبناء المناطق النائية للعمل في باقي البلاد، أو الخروج منها أصلاً نحو أماكن أخرى تؤمّن لهم عيشاً كريماً، لا يجعلهم يعودون إلى مناطقهم، التي ستنهبها السلطات، وتهبها لمواليها الأقرب، حماة عروشها.

تبقى هذه المناطق، ويبقى هذا التكوين بين الناس، كي يبقى الإحساس باللّانتماء إلى هذه البلاد، حتى يظن كل واحد أنّ علاقته بهذه البلاد مربوطة بولادته أو ولادة أبيه، ومع أول فرصة لتركها، يتركها بلا عودة.

■ ■ ■

هذه البلاد كفر، هذه البلاد سلاطينها طغاة العصر. يذهب طاغٍ ليحلّ مكانه طاغٍ. ورغم كل ذلك، الاستكانه والقبول كفر آخر، والحديث بصوت خافت كفر. ولا سبيل، لا سبيل، إلا بالكفر في وجه هذا الكفر وهؤلاء الكفرة.

* صحافي فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة