لور شدراوي
يتحدّثون عن انقلاب: انقلاب الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام على حزب الله. يا للدهشة! هل تفاجأ أحد منكم بهذا الانقلاب؟
من جهتي كنت أنتظره منذ الدورة الثانية لانتخاب الرئيس، يوم عاد النواب إلى القاعة وانتخبوا العماد عون معلنين عن تعهدات لا أحد يعلم فحواها حصلت ما بين الجلستين. إن كان بالفعل جرى اتفاق، ما الذي جعلهم يثقون بحسن النوايا؟ أم هو كالعادة قذفٌ لكرة النار إلى الأمام؟ «قطوع نقطعه الآن وبعدين منشوف؟»، قنبلة نتحاشاها الآن ونتفاجأ عندما تنفجر بنا غداً؟
هل يتصنّعون الدهشة، ثم على أي أساس شاركوا في حكومة نواف سلام وأعطوها الثقة؟ ثم يحدثونك عن أنه خذلهم؟.
عادة، يخذلك شخص قريب منك، وكنت توليه ثقتك، لكن تتفاجأ أن يخذلك خصمك؟
ألا تلاحظون أن سياسيينا يستخدمون كثيراً مفردات الخذلان والانقلاب والطعن في الظهر؟ عند المفاصل المهمة كالانتخابات مثلاً، نيابية كانت أو بلدية أو حتى نقابية، تراهم ملء الثقة وطيبة القلب منفتحين إلى أبعد حدود، وما إن تنتهي حتى يتفاجأوا بحلفائهم وخصومهم ويبدأ الطعن بالظهر. ونندهش جميعاً. في الحقيقة لا يندهش أحد منهم ولا منا. كلها حفلة كذب وتكاذب.
اصطناع الدهشة هذه تأتي من أن الفريقين المتنازعين في البلد، أحدهما لا قدرة له على الفعل، وآخر لا رؤية ولا مشروع له. واحد يريد نزع السلاح ولا قدرة له، وآخر يريد الإعمار ولا قدرة له. الأول يريد نزع السلاح (أي الارتهان الكامل للوصاية والعدو) ثمناً للحصول على الدعم المالي، فلا نضطر -لا سمح الله- إلى بناء اقتصاد قائم بذاته، والثاني ينتظر الدعم لإعادة الإعمار ودفع عجلة الاقتصاد من دول خارجية يناصبها العداء.
ربط قوى الوصاية لإعادة الإعمار بنزع السلاح، ما هو إلا ترجمة لما كرسناه نحن على مدى سنوات عندما قررنا أن فريقاً منا يقاوم وآخر يهتم بالاقتصاد ويأتي بالأموال. كأن لا علاقة للدفاع عن الوطن بشكل اقتصادنا. كأن الاقتصاد مجرد مجموعة مشاريع نقوم بتنفيذها.
الاقتصاد هو الذي يبني الدولة ويعطيها شكلها وهو مصدر مناعتها أمام الأعداء. لا فصل بين المسألتين ولا حلول اقتصادية خارج نقاش شكل الدولة والمجتمع الذي نطمح إليه. كان الحزب يتحدث عن بناء الدولة من خارج الرؤية الاقتصادية. لم يكترث لبناء دولة عبر بناء اقتصاد لهذه الدولة.
لا يمكن لحزب الله أن يتحدث عن انقلاب قام به خصوم لا يريدون المقاومة أصلاً، كما لم يعد بمقدوره النأي بالنفس عن بناء الدولة المختلفة
الاقتصاد أيضاً جزء من السياسة الخارجية. هل كان في الإمكان الفصل بين المقاومة والخيارات الاقتصادية، خاصة عندما تلزّم هذه السياسات لخصومك؟ كيف كان يستوي أن يوافق حزب الله، لا بل يعلن أن على الفريق الخصم أن يأتي بالأموال (من باريس 1-2 وسيدر ومن السعودية وغيرها) وهو يتفرغ للمقاومة؟ هل تذكرون سردية التوجه شرقاً وغرباً؟ بمعنى أنّ فريقاً يتوجه شرقاً وآخر يتوجه غرباً وليأتي كل فريق بما استطاع إليه سبيلاً. هذه ليست خيارات اقتصادية، هذه ازدواجية تعكس جهلاً فاقعاً بالاقتصاد السياسي. هذه المساكنة المستحيلة بين الأضداد والتمسك بحكم الشراكة هو ما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة.
على سبيل المثال كان خيار نجيب ميقاتي (كما القبول بنواف سلام أيضاً) لرئاسة الحكومة هو خيار ترميم العلاقة الاقتصادية بين لبنان ودول الخليج. لكن المال الخليجي مشروط، وهو مرتبط بإخضاعنا لسياسة التطبيع. إذا كنا لا نريد مالهم المشروط ولن ندفع الثمن المطلوب منا، فلمَ نختار الميقاتي أساساً؟ هذا إذا غضّينا الطرف عن أن هذا النموذج القائم على الدين هو الذي جعل اقتصادنا رهينة تستخدم كأداة ضغط لفرض الشروط، وأوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
لا مفر من أن تختار وجهتك السياسية والاقتصادية معاً. يفترض أن الانهيار المالي كشف حسياً كيف أن الخيارات الاقتصادية هي خيارات في صلب الصراع مع إسرائيل، حينها اكتشف الجميع أهمية الاقتصاد المنتج. أين تبخرت هذه الشعارات الآن؟
«السؤال الذي يفترض أن يشغل بال قيادة حزب الله هو: هل ثمة تعارض فعلي بين مشروع التحرير ومشروع التغيير الداخلي؟»، سؤال طرحه إبراهيم الأمين منذ أكثر من عقد من الزمن.
كان خطاب المقاومة بالنسبة إلى بناء الدولة يُختصر بأنه لا يمكن أن تطلب منهم أكثر مما يقومون به. كما قال أحدهم: بدنا نقاوم وكمان بدنا نجبلكم مناقيش كل يوم الصبح؟ والسردية الأخرى أنهم مع بناء الدولة القادرة والعادلة، ولكن مع إضافة «ابنوا هذه الدولة ثم تعالوا وطالبونا».
وكأن الدولة بناية جديدة تقوم ببنائها جنب القديمة، ثم ينتقلون إليها عندما تجهز. بناء هذه الدولة العادلة والقادرة غير ممكن من دون تفكيك وهدم النظام الذي صار حزب الله ركناً أساسياً فيه. لا يمكن أن تتبنى الطرح وتقف في وجهه بنفس الوقت. كان على الحزب أن يشارك في عملية تفكيك هذا النظام وبناء الدولة. لم يفعل، بل توغّل أكثر في التركيبة اللبنانية. هل رأى تناقضاً بين قيام الدولة ومقاومة العدو؟
هذه هي المراجعة التي على الحزب أن يقوم بها. هل هناك تعارض في أن تريد الدولة وأن تدعم المقاومة؟ لمَ الإيحاء بأنّ من يطالب ببناء دولة كاره للمقاومة؟
الأسئلة التي لا مفر منها والتي تأخرت كثيراً هي: لماذا يصرّ حزب الله على النموذج القديم؟ هل إمكانية بناء دولة في لبنان ما دونها حتماً اقتتال داخلي؟ هل تتعارض حاجتنا إلى بناء دولة مع مصلحتنا في حماية أرضنا من الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية أم تتلازم معها؟ والأهم: ما شكل الدولة التي نريدها، كيف تحمي نفسها؟ ما شكل اقتصادها مصدر منعتها؟