جاسم المحمد علي
إنّ نظرة بانورامية إلى خرائط الصراع، وما أنتجته من تداعيات ومعادلات دموية، تكشف أن جبهة المقاومة كانت، ولا تزال، الجبهة التي دفعت أثماناً هائلة من دمائها، في فلسطين ولبنان واليمن وإيران والعراق، لتظلّ الشاهد الحي على أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع من قلب الألم.
لكن هذا الواقع المثخن بالتضحيات يفتح الباب أمام جدلية كبرى تتأرجح بين رؤيتين متعارضتين:
أولاهما، ترى في هذه المسيرة خط انتصار متصاعد يُعيد للأمّة معناها وقدرتها على النهوض.
والثانية: تُغذّي شعوراً بانكسار الروح أمام هول الفقد والخسارة، فتستبدل الأمل بالحيرة، والعزم بالإنهاك.
ومن رحم هذا التناقض تتولّد أحياناً حالات من الإحباط الوجودي لدى بعض أبناء المشروع المقاوم، إذ يجدون أنفسهم أمام صور الفقد الموجعة، أو أمام حربٍ نفسية وإعلامية ماكرة تستهدف بنية الوعي قبل أن تستهدف بنية السلاح.
لقد شكّل استشهاد القائد الكبير السيد حسن نصرالله مثالاً صارخاً على هذا التوتر الوجداني بين الإيمان بالنصر والخشية من الضياع. فالرجل الذي تحوّل إلى رمز للكرامة والوعي في وجدان الأمّة، كان استشهاده لحظة مفصلية قرأت فيها الجماهير مشهد المقاومة بعين الفقد، لا بعين البصيرة. ومع أن الوقائع الميدانية دلّت على انتصارات مرحلية وإنجازات نوعية، إلا أن النفس الجمعي، المتخم بالألم، أعاد إنتاج صورة الهزيمة على نحوٍ رمزي، حتى في لحظة الصعود إلى مقام الشهادة.
إنّ مراجعة النتائج الميدانية والإستراتيجية للصراع تثبت أن المشروع الصهيوني ــ الأميركي لم يحقق أهدافه الجوهرية، رغم استنفاره لكل أدوات القتل والتدمير. لقد أراد سحق المقاومة في غزة ولبنان وإيران واليمن، لكنه، برغم اغتيال القادة الكبار واستباحة المدنيين، لم ينجح في كسر إرادة المقاومة أو تفكيك منظوماتها البنيوية.
فالمحور ما يزال قائماً، نابضاً بالحياة، قادراً على إعادة التموضع، واستعادة التوازن، وتطوير أدوات المواجهة. وتقرّ المؤسسات العسكرية والإعلامية للعدو بذلك على نحو صريح. أمّا الهجمات على إيران، فلم تنل من مراكز قوتها الإستراتيجية أو قدراتها النووية، إذ أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن منشأة فوردو لم تُصَب بأي ضرر جوهري. بل إنّ الرد الإيراني النوعي كشف عن قدرة فائقة في دقة الاستهداف والتأثير البنيوي في مؤسسات الكيان، ما أجبر العدو على طلب الإسناد الأميركي العاجل.
النصر، في أدبيات المقاومة، ليس رقماً يُحصى أو أرضاً تُستعاد، بل هو حالة روحية وجودية يُقاس فيها الصمود بمدى الثبات على المبدأ، لا بمستوى المكاسب المادية. فالمقاومة في جوهرها مشروع أخلاقي، إذ يُمتحن الإنسان لا بما يملك، بل بما يبذل: «لن تنالوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّون» (آل عمران: 92). إنّ مَن ينفق من ذاته في سبيل الحق، يُحقّق النصر الحقيقي؛ لأن الانتصار في هذا المستوى لا يُقاس بما تحقّق، بل بما تجلّى من معنى في الوعي الجمعي للأمّة.
قد تبدو الانتصارات الظاهرية للعدو طاغية في بعض اللحظات، لكنها لا تُغيّر من جوهر المعادلة
فالنجاح الحقيقي هو أن يبذل الإنسان ما يحب كثيراً من أجل أن يحقق نصراً حقيقياً ليس محصوراً على الفتوحات الشكلانية. هكذا تصبح الهزيمة، مهما بدت فادحة، لحظة كشف روحي، يميز فيها الصادق من المنافق.
الصراع بين الحق والباطل يتناوب على الوجود كأمواج البحر: «يومٌ لنا من عدوّنا، ويومٌ لعدوِّنا مِنّا». وهذا من السنن التاريخية في الصراع بين الحق والباطل. وهذا التناوب ليس علامة ضعف، بل شرط وجودي لإدامة الوعي الجهادي وتجديد العزم الروحي. فالثبات في لحظة الانكسار هو امتحان النصر المؤجل، لأن المعارك تُخاض في الزمن، بينما النصر يُكتب في الوعي.
لقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ» (آل عمران: 139). ومن هذا المنظور، لا تُفهم المقاومة بوصفها صراعاً عسكرياً فقط، بل كـحركة إنسانية كبرى تستعيد توازن العالم بين قوى العدل والطغيان. فهي ليست مشروعاً سياسياً محدوداً، بل تجسيد لإرادة الله في التاريخ، تسير على هدي السنن الإلهية التي تجعل العاقبة دائماً للحق، مهما تعاظم جبروت الباطل.
قد تبدو الانتصارات الظاهرية للعدو طاغية في بعض اللحظات، لكنها لا تُغيّر من جوهر المعادلة؛ لأن الوراثة النهائية لهذا الوجود هي لأهل الحق والمقاومة. إنّ الثقة بقدرة المحور على الاستمرار، وتجدّده الرسالي رغم الجراح، هي ما يذيب الخوف ويعيد للأمّة توازنها الداخلي. فالمعركة ليست بين جيشين فقط، بل بين رؤيتين للإنسان والكون: رؤية تستعبد، وأخرى تحرّر.
وعليه، فالنصر والهزيمة لا يُقاسان بمقدار الأرض التي تُحتلّ أو تُحرّر، بل بمقدار المعنى الذي يُصان، وبمدى حفاظ الإنسان على وعيه وموقعه في مشروع الوجود. المقاومة ليست حدثاً عسكرياً، بل فلسفة حياة، ومعنى وجودي يصوغ الإنسان في أعلى مراتبه: الإنسان الذي لا يُهزم هو المؤمن بأن الكرامة لا تُشترى بل يُستشهد من أجلها.
إنّ المقاييس الحقيقية لظاهرة النصر والهزيمة تتضح بكونها مقاييس ميّالة إلى عالم المعنى والمبادئ؛ فيجب على القارئ لحركة الصراع أن يفسر الظواهر والقضايا بصورةٍ أعمق ممّا هو في متناول المجهر المادي.
* عضو الهيئة القيادية في «لقاء المعارضة في الجزيرة العربية»