آخر الأخبار

الاستسلامُ ليس خياراً: دُروسٌ من بيروت إلى غزَّة

محمود كلّم

عند كلّ عدوانٍ يشنّه الاحتلالُ على قطاع غزّة، يتكرّر السؤال: لماذا لا تستسلمُ المقاومة؟ لماذا لا تُلقي السلاح لتجنّب المدنيين ويلات الدمار؟ يبدو السؤال منطقيّاً من منظور الراغبين في إنهاء المعاناة، لكنه يتجاهل دروسَ التاريخ التي أثبتت أن الاستسلام لا يعني السلام، بل يعني الذبحَ والتهجيرَ والخضوعَ التامّ.

لِنَعُد إلى السادس من يونيو عام 1982، حين اجتاح الاحتلالُ لبنان بذريعة اغتيالِ دبلوماسيٍّ تابعٍ له في لندن. كان الاحتلال قد أعدَّ العدّة مسبقاً لهذه الحرب، ووجد المبرّر المناسب. دخلت دباباته إلى لبنان، وحاصرت بيروت الغربية، حيث كانت تتمركز قواتُ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.

بدأ الحصار، في مشهدٍ يُشبه ما تشهده غزة اليوم: قطعٌ للمياه، ومنعٌ للدواء والغذاء، وقصفٌ بلا هوادة. كان الاحتلال يسعى إلى تصفية الوجود الفلسطينيّ المسلّح في لبنان، تماماً كما يسعى اليوم إلى القضاء على المقاومة في غزة.

صمدت المقاومة الفلسطينية واللبنانية ثمانين يوماً رغم الخسائر الفادحة، لكن الحلفاء بدأوا في التراجع. انسحبت بعض الفصائل اللبنانية، ونصح وليد جنبلاط عرفات بإنهاء المعركة. اضطرَّ عرفات إلى قبول الخروج من بيروت إلى تونس برفقة ألفي مقاتلٍ بسلاحٍ خفيف، في صفقةٍ بدت كأنها ستُنهي المأساة، لكن ماذا حدث بعد ذلك؟

ما إن غادر عرفات حتى وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 سبتمبر 1982، حيث تعاون جيش الاحتلال مع ميليشياتٍ لبنانية على ذبح أكثر من ألفي فلسطينيٍّ في المخيمات بوحشيةٍ تقشعرّ لها الأبدان. كان هذا أول “جزاء” للاستسلام، لكن الاحتلال لم يتوقّف عند ذلك.
في الأول من أكتوبر 1985، قصفت طائراته مقرَّ منظمة التحرير في تونس، محاولةً اغتيال عرفات، ما أسفر عن مقتل 50 فلسطينيّاً و15 تونسيّاً.

ظنّ البعض أن خروجَ منظمة التحرير من بيروت سيمنح الفلسطينيين بعضَ الأمان، لكنه كان مجردَ بدايةٍ لسلسلة اغتيالاتٍ استهدفت القادة الفلسطينيين في المنافي:

عام 1988، اغتال الاحتلالُ خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس بـ76 رصاصة.

عام 1991، قُتل صلاح خلف (أبو إياد) ورفاقُه بأيدٍ فلسطينية يُشتبه في ارتباطها بمخابرات الاحتلال.

أثبتت هذه الأحداث أن الاستسلام لم يُوفّر الأمان للقادة، بل سهَّل استهدافهم.

بعد الخروج من لبنان، فقدت منظمة التحرير وجودها العسكريَّ في دول الطوق، فأصبحت عاجزةً عن مقاومة الاحتلال. أدّى ذلك لاحقاً إلى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، الذي حوَّل القضية الفلسطينية من مشروعٍ تحريريٍّ إلى “سلطةٍ” تدير الشؤونَ المدنيةَ تحت الاحتلال، وتقوم باعتقال المقاومين نيابةً عنه.

وهذا بالضبط ما تخشاه المقاومة اليوم: أن يُؤدّي الاستسلام إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائيّاً، وتحويل غزة إلى كيانٍ منزوع السلاح تحت سلطةٍ تعمل لمصلحة الاحتلال.

اليوم، يحاصر الاحتلالُ غزة كما حاصر بيروت عام 1982، ويسعى إلى القضاء على المقاومة كما سعى إلى القضاء على منظمة التحرير. لكن المقاومة في غزة تعي درسَ الماضي: الاستسلام لن يجلب السلام، بل سيؤدي إلى التطهير العرقيِّ والتهجيرِ القسريّ، تماماً كما حدث في النكبة عام 1948.

الاحتلال لا يُقدّم للفلسطينيين خياراً حقيقياً بين الحرب والسلام، بل يفرض عليهم معادلةَ الموتِ بأشكاله المختلفة: إمّا بالمجازر، أو بالحصار، أو بالتهجير. في هذه الظروف، يصبح القتالُ حتى الرمقِ الأخيرِ خياراً عقلانيّاً، لا مجرَّد عنادٍ أيديولوجيّ.

لماذا لا تستسلم المقاومة في غزة؟

لأنّ التاريخ علَّم الفلسطينيين أنَّ من يثقُ بوعودِ الاحتلال يلقى حتفه، وأنَّ من يُلقي السلاح يواجه المجازر، وأنَّ من يستسلم يتحوَّل إلى أداةٍ لقمع شعبه.
في هذه الظروف، تبدو المقاومةُ حتى النهاية الخيارَ الوحيدَ للحفاظ على القضية الفلسطينية، حتى لو كان الثمنُ باهظاً.

التاريخ ليس مجردَ رواياتٍ تُحكى، بل هو دليلٌ عمليٌّ على ما ينتظرُ من يسلكُ الطريقَ نفسه. أثبتت تجربةُ منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت، وما تبعها من اغتيالاتٍ وتصفيةٍ للمقاومين، أنَّ الاستسلام لا يجلبُ الأمان، بل يجعل الفلسطينيين أكثرَ عرضةً للإبادة.

غزة اليوم تدرك هذا الدرس جيداً. ليست معركتها مجردَ صراعٍ عسكريٍّ، بل معركةَ وجود. الاستسلامُ يعني القبولَ بالخضوعِ الكامل، وفقدانَ أيِّ فرصةٍ للتحرّر، بل وربما فقدانَ الأرضِ نفسها عبرَ التهجيرِ القسريّ. لهذا، تُصرُّ المقاومةُ على القتال رغم كلفة المواجهة، لأنها تعلمُ أنَّ ثمنَ الاستسلام سيكونُ أشدَّ فداحة.

الاحتلال لا يمنحُ الفلسطينيين خياراتٍ عادلة، بل يفرضُ عليهم معادلةَ الموتِ بأشكاله المختلفة. وفي ظلِّ هذه المعادلة، يصبحُ الصمودُ والمقاومةُ قراراً عقلانيّاً، لا مجردَ اندفاعٍ عاطفيّ. الفلسطينيون جرّبوا طريقَ التفاوضِ والتنازل، فكانت النتيجةُ مزيداً من القتلِ والاستيطانِ والقمع.
لهذا، لا ترفعُ غزة الرايةَ البيضاء، لأنها تعرف أنَّ من يُسقطُ سلاحهُ اليوم، سيُبادُ غداً.

التاريخ علَّم الفلسطينيين أنَّ الاستسلامَ ليس سلاماً، بل فخٌّ قاتل. فهل تعلّمَ العالمُ هذا الدرس؟

حالة الطقس

حالة الطقس

جارٍ تحميل بيانات الطقس...

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
ثريدز
لينكد إن
تيليغرام
الأيميل
بين تريست
طباعة