أيهم السهلي
لم ينتهِ العدوان على قطاع غزة، والحرب ما زالت مستعرة، أما خديعة وقف الحرب، فما هي إلا لإكمال الحرب في وضع الصامت، حتى لا ينتبه العالم، ويعود لينشغل بمشكلات أخرى.
وقطاع غزة المدمر، أهله غرقى في الواقع لا في المجاز، بمياه الأمطار، فالخير الذي ترتجيه الناس من هطول المطر، ليس سوى مأساة في مساحة الخيمة التي تسكنها معظم عائلات قطاع غزة. وهذه «المأساة» تزور غزة للعام الثالث على التوالي، عامان منها كانت الحرب فيهما واضحة تماماً، أما هذا العام، فالحرب مستمرة بشكل آخر، وبطريقة يمكن وصفها بـ«الهادئة»، ستحاول إسرائيل خلالها أخذ ما لم تتمكن من أخذه بحرب العامين.
هذا مشهد من المشاهد التي ما زالت كاميرا الصحافة تنقلها، لكن هناك مشاهد تحت الكاميرا، أكثر صعوبة وألماً، كطفل يشعر بالبرد، ولا يجد أبواه طريقة ليقياه من برد الشتاء القارس، فحتى لو أن الكاميرا نقلت كلمات أمه مثلاً عن برد ابنها، وعن شعورها بالعجز، لن تتمكّن، مهما برع صاحبها، من نقل شعور البرد الذي يشعره الصغير، وحتى الكبير.
قد تسكن أرواح سكان قطاع غزة قليلاً، لو أنهم يعرفون فقط، متى سيخرجون من الخيمة إلى «كرافان»، فيه «مرحاض» نظيف، يمكّن أحدهم من إخراج فضلاته ببعض الكرامة، من دون الإذلال الذي يعيشه الأهل هناك، وهم يقفون في أدوار طويلة، الانتظار فيها لم يتحول إلى عادة، ولن يتحول، فالروائح الكريهة كفيلة أن تجعل المرء هناك يفكر بأن الموت أفضل بكثير من هذا «الدور».
ليست «المراحيض» فقط هي المشكلة التي يعيشها الناس هناك في قطاع غزة، بل كل ما يمت للنظافة بصلة، نعم النظافة، رغم أن المنظمات الدولية ستحب كلمة البيئة أكثر، إلا أن النظافة الفردية للناس صعبة جداً، بسبب تراكم النفايات، وعدم التمكن من معالجتها، أو تدويرها، فحرب العامين، مثلما قتلت البشر، قتلت إمكانات وممكّنات البقاء، كالآليات التي تساعد على التعامل مع النفايات. وجراء النفايات الكثيرة في القطاع، انتشرت القوارض والثعابين والخلند والحشرات، وبالتالي الأمراض الخطيرة والمعدية.
أمّا الاستحمام، استحمام أهل غزة، فهو أيضاً واحدة من المآسي التي لا تطل الصحافة عليها كثيراً، لما فيها من تفاصيل صعبة، قد لا يريد كثير من الجهات أن يبرزها. فأهل غزة، لجأوا إلى الاستحمام في البحر، ويمكن القول إنها تتلوث بالقمامة التي ترمى فيه، وكذلك بالفضلات الكثيرة لنحو مليوني إنسان جمّعهم الجحيم المسمى «الحياة اليومية في غزة»، ومن لا يستحم في البحر، يستحم في «المراحيض» أحياناً، بلا أدنى إحساس بالخصوصية المفترضة والطبيعية في «بيت الخلاء».
هذه الشؤون المذكورة أعلاه، لا تتطلع إليها السياسة، ولا تدخل في حساباتها، ولكنها تستخدم عند الضرورة، فما البشر في حسابات السياسيين المستعمرين إلا أدوات لتحقيق المصالح، لا أكثر ولا أقل، سواء في إماتتهم، أو حياتهم، داخل الحروب وخارجها (ليس المقصود السلم). وكل حديث عن مصلحة أهل غزة، والرغبة في أن يحيوا حياة كريمة، هو حديث عن كذبة جديدة، وأسلوب جديد لاستغلال البشر، وبدقة أكثر، للإتجار بهم، فبعد تحقيق الغايات السياسية منهم، سيعمل على تهجيرهم، كما يحدث فعلاً.
إنّ استخدام المفاوض الإسرائيلي «خراء»** الغزيين يعتبر بديهية، لتحقيق مكاسب على المفاوض الفلسطيني المعني بشعبه في البداية وفي النهاية. فالفلسطيني، وإن كانت صفته «مفاوضاً»، ما هو إلا أحد الفلسطينيين المطرودين من أرضهم، مع صفة أخرى لا تنطبق على كل الفلسطينيين، هي أنه مطارد لأنه اتخذ قرار المواجهة، مع صفة إضافية لازمة لمن يواجه، أنه ميت.
وإن كان الفلسطيني الثائر الفدائي سابقاً يصرخ «يا وحدنا»، فإن الأجدى به اليوم أن يصرخ «يا وحدكم»، فالقادم من «مرحاض» غزة نور للأمم التي تنكست راياتها.
** كلمة لا يليق استخدامها في الصحافة عادة، ووضعت هنا لأنها الأبلغ في وصف حالتنا
* كاتب فلسطيني