حسين البطش
أوقفت خطّة ترمب—على نحوٍ نسبي—شكلاً واحداً من أشكال الحرب، والمتمثّل في القصف المركّز الذي أنتج عشرات المجازر يومياً، لكنها أبقت وجوهاً عديدة للحرب قائمة، وإن كان شكلها قد تغيّر. فمنذ اللحظة الأولى، كان الهدف الأميركي–الإسرائيلي من الاتفاق واضحاً: تحرير أسرى الاحتلال وجثث قتلاه، مقابل تقديم وعود إلى غزة تتعلّق بإعادة الإعمار وتحسين البنية التحتية من كهرباء وماء وصحة وتعليم واتصالات.
وفي أثناء أكثر من خمسين يوماً على بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، التزمت المقاومة الفلسطينية بكل استحقاقات الاتفاق وأفرجت عن الأسرى أحياءً وأمواتاً. وعلى النقيض، تجاوزت إسرائيل كل الخطوط، فاغتالت العشرات من الشباب، وقتلت المئات من المدنيين تحت ذرائع تسوّقها منظومتها الإعلامية والسياسية، وتحظى بقبول الراعي الأول للاتفاق: الولايات المتحدة.
انتهت المرحلة الأولى وقد حقّقت إسرائيل غالبية ما أرادته، فأبقت قواتها العسكرية تسيطر على نحو 51% من مساحة قطاع غزة، وتستمرّ في تنفيذ عملياتها الأمنية بحرّية، بما يشمل الاغتيالات ومهاجمة المناطق غير الخاضعة لسيطرتها الكاملة. وفي الوقت ذاته، تتعطّل جهود الوسطاء للدفع نحو المرحلة الثانية، رغم وجود رغبة فلسطينية حقيقية بالمضي قدماً، مدفوعة بالواقع الإنساني الكارثي الذي يعيشه سكان القطاع.
فلسطينياً، تراجعت أوراق القوة بعد الإفراج عن الأسرى، ومع التفوّق العسكري الإسرائيلي والدعم الأميركي–الغربي المفتوح، باتت إسرائيل تسعى إلى تكريس حال «لا حرب ولا سلم»، لأنها تمنحها حرّية العمل العسكري دون كلفة سياسية أو بشرية في جنودها. وفي ظلّ شحّ الخيارات، يبرز دافع ملحّ لدى الفلسطينيين للانتقال إلى المرحلة الثانية لأنها تحمل بوادر تخفيف المعاناة اليومية وفتح نافذة للحياة.
ورغم كل ما سبق، لا تزال الساحة الفلسطينية تعاني انقساماً غير مسبوق، في لحظة تُهدَّد فيها القضية الفلسطينية على نحو يمسّ القدس واللاجئين والجغرافيا الوطنية. ومن الواضح أنّ غياب الاجتماع الوطني بات فجوة خطيرة تُضعف القدرة على إدارة اللحظة السياسية والأمنية الحرجة.
ومع وجود حكومة يمينية في إسرائيل، برئاسة نتنياهو، وتزامن ذلك مع إدارة أميركية منحازة بالكامل إلى الموقف الإسرائيلي، فإنّ تحقيق مكاسب وطنية كبرى يبدو صعباً للغاية. والمطلوب—في الحدّ الأدنى—وقف الخسائر الوطنية والإنسانية، والتمسّك بما يمكن تحقيقه في ظلّ موازين قوى مختلّة.
وأمام ما أُعلن في شرم الشيخ، وما تبعه من قرارٍ لمجلس الأمن رقم 2803 يقضي بنشر قوات دولية في غزة، تجد حركة حماس وفصائل المقاومة نفسها أمام تحدٍّ حقيقي يتمثّل في كيفية التعامل مع هذا القرار، ولا سيّما ما يتصل ببندَي نزع السلاح وانتشار القوات، في ظلّ غياب اتفاق وطني يضبط شكل المرحلة المقبلة ويصون الحقوق الفلسطينية.
وإنّ استمرار المرحلة الأولى بصيغتها الحالية يلحق ضرراً مباشراً بالمصلحة الوطنية للأسباب الآتية:
1. إطلاق يد إسرائيل لاغتيال من تشاء داخل القطاع.
2. منحها السيطرة على نحو 50% من أراضي غزة وتدمير ما تشاء داخلها.
3. إبقاء نصف سكان غزة مهجّرين خارج منازلهم.
4. إعفاء إسرائيل عمليّاً من التزامات الانسحاب وبدء عملية الإعمار.
لقد حقّقت المرحلة الأولى هدفها الأهمّ: وقف الحرب. أمّا بقاؤها مفتوحة دون سقف زمني، فهو تحوّل إلى عبء وليس مكسباً.
من المهم أن يسابق صنّاع القرار الزمن لإنجاز شروط الانتقال إلى المرحلة الثانية، لأنها تحمل نتائج ملموسة ومباشرة لصالح السكان، أهمّها بدء عمل اللجنة الإدارية ذات الطابع الخدمي والمموّلة ماليّاً لتسهيل حياة السكان التي سينعكس بدء عملها على حياة المواطنيين وسيكون من أبرز مهامها إطلاق مرحلة الإيواء يليها الإعمار بشكل منظّم، إعادة الكهرباء إلى القطاع تدريجيّاً، التحضير لعودة الطلاب إلى المدارس، وإصلاح المنظومة الصحية والبنية التحتية.
كما أنّ الانتقال لهذه المرحلة سيعيد أكثر من 35% من أراضي القطاع مع اكتمال الانسحاب الثاني.
ختاماً، فإنّ المرحلة الأولى حقّقت الهدف الأسمى وهو وقف الحرب، بينما ستكون المرحلة الثانية مدخلاً إلى معالجة آثارها الكارثية وبدء تعافي الحياة في غزة. لذلك، يصبح الانتقال إليها ضرورة وطنية وإنسانية، تتطلّب إرادة سياسية موحّدة وتقديراً واقعيّاً لموازين القوى، بعيداً عن الحسابات الفصائلية والخصومات الداخلية.
* صحافي فلسطيني – غزة