آخر الأخبار

أبو إياد… رجل الهوية الفلسطينية التي صُنعت من الألم

38cc1127-3a19-49d1-99e1-a314bb3eb19f

عصام الحلبي

في هذا المقالات ادعي رصد حياة الشهيد القائد ابو اياد ، ولكنها محاولة لقراءة جانب من شخصيته، ودوره في تأسيس الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية المعاصرة.

أبو إياد… رجل الهوية الفلسطينية التي صُنعت من الألم

في ذاكرة الفلسطينيين، يبقى اسم صلاح خلف “أبو إياد” حاضرًا كواحد من أبرز وجوه الثورة الفلسطينية، ليس لأنه كان صاحب خطاب صاخب أو حضور عسكري لافت، بل لأنه كان صوت العقل الهادئ في زمن كانت الانفعالات فيه أعلى من التفكير.
ومن يقرأ كتابه الشهير “فلسطيني بلا هوية” يدرك أن الرجل كتب تجربته بصدقٍ مؤلم، وكأنه يروي حكاية شعب كامل لا قصة شخص واحد.

من يافا إلى غزة… ولادة وعي جديد

وُلد أبو إياد في يافا عام 1933، كانت المدينة في تلك الفترة مركزا تجاريًا وثقافيًا لا يُنسى، لكن كل ذلك انهار مع نكبة 1948.
مثل آلاف العائلات، غادر مع أسرته إلى غزة، ليصبح لاجئًا.
وفي كتابه، يصف تلك اللحظة بجملة بسيطة ولكنها عميقة:
“أفقتُ فجأة على حقيقة أننا فقدنا كل شيء… ولم يبقَ لنا إلا أن نحمل ذاكرتنا معنا.”
هذه الجملة تلخّص البداية الحقيقية لوعيه، الفلسطيني بلا أرض لا يعني فلسطينيًا بلا معنى، بل يعني فلسطينيًا يبحث عن معنى جديد لهويته.

تأسيس حركة فتح…

لاحقًا، وخلال سنوات دراسته وعمله في مصر ثم الكويت، التقى أبو إياد بياسر عرفات وخليل الوزير وبدأوا معًا التفكير في إعادة صوت الفلسطيني إلى الواجهة.
كانت الفكرة بسيطة وقوية، أن يتكلم الفلسطيني باسمه، وأن يبدأ عمله بجهوده لا بانتظار قرار من أي نظام .
في الكتاب، يروي أبو إياد لحظة إدراكهم لهذه الحقيقة قائلاً:
“أدركنا أننا لو لم نبدأ نحن، فلن يبدأ أحد من أجلنا”.

بهذه الروح تأسست حركة فتح، وبهذا المنطق شارك أبو إياد في بناء خلاياها الأولى وتنظيمها وانتشارها.
رجل الأمن الهادئ… لا سلطة فوق السياسة

عندما تولّى أبو إياد مسؤولية جهاز الأمن الموحد في منظمة التحرير، لم يتغيّر كثيرًا.
ظل يؤمن بأن الأمن يجب أن يكون “درعًا للحركة وليس سوطًا بيدها”.
وفي الكتاب، نجد مثالًا واضحًا على مقاربته الدقيقة للملفات الأمنية، حين يروي كيف كان يحاول منع الاحتكاكات بين الفصائل قائلاً:
“أسوأ الحروب تلك التي نخوضها ضد أنفسنا… فهي لا تُكسبنا إلا الخسائر.”
هذه الجملة تكشف رؤيته البعيدة، كان يفهم أن الانقسام الداخلي أخطر من أي مواجهة مع الخارج.

رؤيته السياسية… الهوية أولًا

كانت أهم فكرة دافع عنها أبو إياد هي استقلالية القرار الوطني الفلسطيني.
لم يكن ذلك تعبيرًا عن عناد سياسي، بل عن شعور عميق بأن الفلسطيني إذا لم يملك صوته، لن يملك قضيته.
في “فلسطيني بلا هوية” يكتب:
“كنت أخشى أن نصبح ورقة في يد الآخرين… نرتفع حين يريدون ونسقط حين يريدون.”

ولذلك دعم الكفاح المسلح كوسيلة لإعادة الاعتراف بالشعب الفلسطيني، لكنه كان حريصًا على ألا يتحول السلاح إلى هدف بحد ذاته،
كان يدعو دائمًا إلى التوازن بين الفعل العسكري والقرار السياسي.

أمثلة من الكتاب… لحظات تكشف روح الرجل

1. حادثة الطفلة اللاجئة في غزة
يروي أبو إياد أنه شاهد طفلة لاجئة تبكي أمام خيمة ممزقة بسبب المطر، فيقول:
“كانت تلك الطفلة تختصر الوطن كله… وكنت أشعر أن الثورة يجب أن تبدأ من دمعتها.”
هذا المثال يوضح بُعده الإنساني، وأن الثورة بالنسبة له لم تكن شعارات بل وجعًا حيًا.
2. جلسات التنظيم الأولى في الكويت
يحكي كيف كانوا يجتمعون بعد العمل لساعات طويلة لكتابة نشرة أو مناقشة بيان:
“لم نكن نملك سوى قلماً وورقة… لكننا كنا نملك الإصرار.”
هذا المثال يكشف بساطة البداية وقوة الإرادة.
3. موقفه من الحرب الأهلية اللبنانية
يكتب بحزن عن أخطاء الفلسطينيين وأخطاء الآخرين:
“دخلنا الحرب دون أن نعرف كيف نخرج منها… وكانت النتيجة أن الجميع خسر.”
مثال يوضح شجاعته في النقد الذاتي وعدم تبرير الأخطاء.

“فلسطيني بلا هوية”… أكثر من كتاب

ليس الكتاب سردًا ذاتيًا فقط، إنه كشف عن الجرح الفلسطيني من الداخل.
يحكي عن الخوف، عن الأمل، عن الصراعات العربية، وعن التعقيدات التي عاشها الفلسطينيون في كل دولة لجأوا إليها.
والأهم من ذلك، أنه يحاول الإجابة عن السؤال الذي يؤرق كل لاجئ:
من نكون حين نُنتزع من أرضنا؟
أبو إياد… بوصلة في زمن الضياع

لم يكن أبو إياد مجرد رجل أمن ولا قائدًا سياسيًا فقط، بل كان ضميرًا هادئًا داخل الثورة الفلسطينية.
رحل اغتيالًا عام 1991، لكن صوته بقي حاضرًا في كتابه وفي التجربة التي تركها خلفه.
وإذا كانت الهوية الفلسطينية قد صمدت رغم كل شيء، فذلك لأن رجالًا مثله آمنوا أن الهوية لا تُمنح… بل تُنتزع.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة