ربى وهبة
الأحزاب التي تستثمر «الأموال السياسية» في العقارات -سواء لتعزيز قواعدها الاجتماعية والسياسية أو لتوليد الإيرادات- تُلاحظ في معظم السياقات، خصوصاً تلك التي شهدت صراعات. مثال بارز على ذلك الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي شكّلت استثماراته العقارية الواسعة في ضواحي باريس جزءاً من استراتيجيته لتعزيز ما أصبح يُعرف بـ «الضاحية الحمراء». وقد أُتيحت هذه الاستثمارات من خلال صندوق سوفياتي يُشار إليه في الخطاب السياسي باسم «ذهب موسكو»، وهو مسار من التمويل السياسي بدأ قبل الحرب العالمية الثانية، واستمر في العقود التي تلتها. ويمكن القول إنه وبسبب حجم هذا التمويل والنطاق الواسع من الاستثمارات التي أتاحها، يُعدّ الشيوعي الفرنسي كحزب أكبر مالك عقاري حزبي في فرنسا.
وقد أمّن هذا الموقع للحزب دخلاً تأجيرياً كبيراً، يستمر في السماح له بالانخراط في مشاريع كبرى لتطوير الأراضي. ولكن، في الآونة الأخيرة، ومع ابتعاد الحزب عن قيادته العقائدية التقليدية، استدرجت هذه الأنشطة تجدد الاتهامات بالفساد، والمعاملات غير الشفافة، والتدخلات التي تقودها المصالح الخاصة. وفي الوقت نفسه، وفّرت إدارة محفظة كبيرة من الأصول السكنية للحزب قاعدة اجتماعية متينة، إذ إن تسهيل الوصول إلى السكن قد أدّى وظيفة آلية أساسية للارتكاز السياسي (مع الإشارة إلى أن بعض الشقق نُقلت حتى إلى الحزب من قبل رفاق تخلّوا طوعاً عن ميراثهم).
ممارسة استثمار الأموال السياسية في العقارات وتطوير الأراضي لتوطيد قاعدة اجتماعية، مع توليد الإيرادات، هي ممارسة شائعة في لبنان أيضاً، وقد ترسخت بشكل خاص خلال الحرب الأهلية. الكثير من الأحزاب السياسية المعاصرة في البلاد لديها مصالح في سوق العقارات، حيث تستخدمها لأهداف مؤسسية، ولتعزيز المصالح الخاصة التي تتقاطع مع ديناميات الحزب. كما تمول جزءاً من نفقاتها من خلال إيرادات الإيجار والأرباح المتأتية من المشاريع التجارية مثل الفنادق والمطاعم.
تُعدّ منظمة التحرير الفلسطينية مالكاً مهماً للأراضي في لبنان -وربما الأكبر بين الفاعلين السياسيين- بالنظر إلى حجم الأصول العقارية التي تدّعي حقوقاً عليها. ومع ذلك، وعلى عكس الأحزاب اللبنانية التي تتمتع بوصول آمن نسبياً إلى ممتلكاتها العقارية، فإن منظمة التحرير وفصائلها لا تمتلك وصولاً آمناً، وتضعف بذلك موقعها كمالكة للعقارات.
وتتميّز المحفظة العقارية للمنظمة بتعقيدات اجتماعية وقانونية وسياسية:
أولاً، اكتسبت معظم ممتلكاتها عبر ترتيبات وصول بحكم الواقع، فلم تُفضِ في أي مرحلة إلى تثبيت حقوق قانونية كاملة. وهذا يعني أن المنظمة هي مالكة بحكم الواقع لعقارات ما تزال قانونياً مسجّلة باسم المالك الذي اشترتها منه، أو باسم مالك صوري عقدت المنظمة معه ترتيبات ليكون حاملاً لملكية العقار.
ثانياً، بالنظر إلى حجم هذه الاستثمارات، تتمتع محفظة المنظمة بقيمة تبادلية عالية، مما يجعلها عرضة لضغوط السوق نحو التصفية أو التطوير، تبعاً لضعف حيازة الأرض لديها.
ثالثاً، والأهم، أن هوية هذا «الملك السياسي» موضع نزاع. فمن الناحية القانونية، تندرج هذه الأصول ضمن فئة الملكية الخاصة، لكنها بحكم الواقع تجسّد إحساساً قوياً بـ «الصالح العام» المرتبط بالحقوق الجماعية والتطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني وبالدور التاريخي للمنظمة. فعلى عكس الحزب السياسي التقليدي، أدّت منظمة التحرير -حتى إنشاء السلطة الفلسطينية- دور الممثل الرسمي الوحيد للمصلحة العامة الفلسطينية، وحركة التحرر الوطني. وفي لبنان، وفقاً لاتفاق القاهرة، تمتعت بوضع ديبلوماسي، وطورّت حضوراً شبه حكومي خلال فترة الفاكهاني. وقد شكّلت هذه الفترة ذروتها السياسية والمالية، وفيها نفّذت هذه الاستثمارات.
على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أن تأخذا في الاعتبار القيمة الاجتماعية الحالية لهذه الأصول. فجزء كبير من مخزون الشقق تشغله عائلات لاجئة تفتقر إلى أي شكل من أشكال الحماية القانونية عند لجوء المالك القانوني إلى طلب الإخلاء
في هذه المقالة، أُجادل بأن الحيازة العقارية بحكم الواقع لدى منظمة التحرير هي التي أوجدت الشروط نفسها التي ظهرت في ظلّها المعاملات غير الشفافة، وأجّجت النزاعات الداخلية حول قيمة الاستخدام (the use value)، وقيمة التبادل (the exchange value) لممتلكاتها -وهي دينامية بدأت مع خروج المنظمة من لبنان وما تزال قائمة حتى اليوم. وقد أدّت هذه التعقيدات في الحيازة دوراً مزدوجاً بوصفها شرطاً مسبقاً ومحفّزاً للفساد، إذ سهّلت تداول هذه الأصول في سوق العقارات لتحقيق مكاسب فصائلية وشخصية على حساب المصلحة العامة الفلسطينية الأوسع.
ومع ذلك، يميل الخطاب العام إلى التركيز أساساً على حجم وقيمة هذه الممتلكات -غالباً بطريقة مبالغ فيها- لتغذية اتهامات سياسية بالفساد هي نفسها متجذّرة في توترات طويلة الأمد داخل السلطة الفلسطينية، وبينها وبين منظمة التحرير. ومع أن الفساد والمعاملات غير الشفافة ينبعان جوهرياً من تعقيد ترتيبات حيازة الأرض المحيطة بهذا المخزون العقاري، فإن طرق تداول هذه الممتلكات في أسواق الإيجار والعقارات الرسمية وغير الرسمية بشكل عام لا يمكن فهمها بالكامل من دون توضيح بنية الحيازة المتعدّدة الطبقات هذه، وحقوق الملكية التي تراكمت عبر التحوّلات الاجتماعية والسياسية المتعاقبة على هذه المحفظة العقارية.
إن نتائج هذه الورقة هي جزء من بحثي للدكتوراه حول أوضاع حيازة الأراضي المهددة في لبنان في كل من سوق الإيجار وسوق العقارات. النهج المتبع هو نهج نوعي، يستند إلى مقابلات معمقة واستشارات أرشيفية، وبالتالي لا يأخذ في الاحسبان نهجاً كمياً لهذه الممتلكات من حيث مداها وقيمتها الاقتصادية.
دوافع الاستثمار وتصنيفات ممتلكات المنظمة
عندما غادرت المنظمة الأردن عام 1971، انتقلت إلى لبنان مع كوادرها ومؤسساتها، واستقرت في حي الفاكهاني في بيروت. أدى العدد الهائل من العناصر، وتعدد المؤسسات والأحزاب والنقابات التي تعمل تحت مظلة المنظمة، والهيئات الثقافية والمساعدة التي تعمل في نطاقها، إلى خلق طلب كبير على العقارات. تجمعت معظم هذه المؤسسات في الفاكهاني، الذي سرعان ما أصبح معروفاً بمركز المنظمة أو معقلها في بيروت. ومع ذلك، امتدت الحاجة إلى العقارات إلى ما هو أبعد من هذه المنطقة. احتاجت المنظمة إلى أراض ومبان لعملياتها العسكرية والأمنية والسياسية في مختلف المناطق اللبنانية التي كانت تنشط فيها، لا سيما حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. كان الدافع الثالث لشراء الأراضي اقتصادياً بحتاً: تأمين مصادر الدخل والمساهمة في تمويل مجموعة واسعة من أنشطة المنظمة، في بلد يتأثر اقتصاده بشدة بتراكم الثروة من الريع العقاري.
كانت مثل هذه الاستثمارات استراتيجية طبيعية، ومثل الكثير من الأحزاب والمنظمات السياسية اللبنانية، استثمرت منظمة التحرير الفلسطينية في العقار لتوليد دخل يمكن توجيهه مرة أخرى إلى الجهود السياسية والعسكرية. كان جزء من هذا الاستثمار العقاري مرتبطاً أيضاً باحتياجات مؤسسة صامد -الذراع الاقتصادية للمنظمة- التي استثمرت في الأراضي الزراعية على طول الساحل، واشترت أو استأجرت مستودعات لورشها.
يمكن تصنيف ممتلكات المنظمة إلى عدة فئات. الأولى، محفظة من الشقق والمباني، يقع معظمها في حي الفاكهاني. والثانية، قطع أراضٍ عالية القيمة تقع في المراكز الحضرية الرئيسية، مثل رملة البيضا أو أحياء مركزية أخرى في بيروت. والثالثة، الأراضي المحيطة بمخيمات اللاجئين، إلى جانب الممتلكات الزراعية في الجنوب. وأخيراً، تشمل المحفظة عدداً صغيراً من قطع الأراضي غير المطورة في جبل لبنان.
عملية الشراء: مركزية اتخاذ القرار وضعف توثيق الحقوق
عند وصولها إلى لبنان، اعتمدت المنظمة بشكل أساسي على عقود الإيجار لتلبية احتياجاتها المكتبية والمؤسسية والسكنية. لكن مع مرور الوقت، لا سيّما بعد اندلاع الحرب الأهلية ودخول المنظمة في الصراع اللبناني، أصبح شراء العقارات أمراً ضرورياً بشكل متزايد. غالباً ما كان مالكو العقارات يتواصلون أولاً مع المنظمة، مدركين أن «لديها الموارد المالية اللازمة للشراء» ومدفوعين بالخوف من فقدان أصولهم في ظل عدم الاستقرار الذي ساد خلال الحرب (تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الإيجارات التي كان مالكو الأراضي يطلبونها من منظمة التحرير الفلسطينية عند استئجارها كانت أعلى من السعر السوقي العادي في ذلك الوقت). ورغم القوة الشرائية لديها، افتقرت المنظمة إلى هيئة مخصصة مسؤولة عن عمليات الشراء وإدارة الممتلكات واتخاذ قرارات الاستثمار، والأهم من ذلك، حفظ السجلات. أدت هذه الفجوة المؤسسية إلى ظهور مشكلتين أساسيتين شكلتا لاحقاً ممهداً لتعقيدات الملكية.
المشكلة الأولى تعلقت بصنع القرار والمكانة المركزية لياسر عرفات -بصفته رئيس «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية- في جميع المعاملات الكبرى. غالباً ما كان من غير الواضح نيابة عمن تم شراء العقارات، وبالتالي إلى أي كيان ستعود ملكيتها. أدى هذا الغموض إلى نشوء نزاعات مستمرة داخل المنظمة، لا سيما بين «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية، بشأن الملكية الشرعية لهذه الأصول.
المشكلة الثانية تعلقت بالتوثيق والأرشفة. ففي ظل غياب سياسة داخلية تنظم عمليات شراء الممتلكات، غالباً ما كانت عمليات الشراء تُسجل فقط من خلال إيصالات بسيطة -هذا إذا تم توفير أي وثائق على الإطلاق. كانت هذه العشوائية سمة مميزة للممتلكات المنخفضة القيمة في المقام الأول. على النقيض من ذلك، بالنسبة إلى الأراضي والمباني العالية القيمة، بذل المسؤولون عن الشراء جهوداً للحفاظ على جميع الوثائق اللازمة لتأمين حقوق المنظمة. ومع ذلك، كانت هذه السجلات معرضة للخطر بشكل كبير: فقد كانت مركّزة في أيدي أفراد موثوق بهم داخل المنظمة، ومع وفاة بعضهم، انتقلت الوثائق إلى أفراد أسرهم الذين كانوا خارج نطاق سلطة المنظمة. وبهذا المعنى، اكتسبت المحفوظات نفسها قيمة تبادلية في سوق العقارات، حيث إن حيازة الوثائق يمكن أن تمكّن الأفراد من تحديد أو المطالبة أو الاستفادة من الممتلكات التي لم تكن المنظمة على علم كامل بها رغم كونها المالك الفعلي لها.
الوضع القانوني لهذه العقارات
وهو البعد الأكثر أهمية في ممتلكات المنظمة العقارية. كان من حق المنظمة قانونياً تسجيل العقارات اللازمة للبعثة الديبلوماسية فقط، ولهذا السبب سجلت مكتبها الرئيسي (الشقة) رسمياً تحت هذا التصنيف. وسجلت بعض العقارات الإضافية باسم الهلال الأحمر الفلسطيني أو «صامد»، وكلاهما يتمتعان بوضع قانوني في لبنان، وبالتالي يُسمح لهما بامتلاك الأراضي. ومع ذلك، فإن احتياجات المنظمة تجاوزت بكثير ما يمكن امتلاكه قانونياً باسمها أو من خلال هذه المؤسسات.
ونتيجة لذلك، لجأت إلى أشكال بديلة للملكية -في المقام الأول الملكية بحكم الأمر الواقع من خلال وكلاء لبنانيين، عادة ما يكونون أعضاء في المنظمة أو شخصيات عامة وسياسية مقربة منها. واعتماداً على ظروف الشراء، تم توقيع وثائق ثنائية لحماية الحقوق وتحديد المالك الفعلي للعقار بحضور محامٍ أو كاتب العدل، مسؤول عن إعداد جميع العقود والوثائق اللازمة.
هذا الشكل من أشكال الحيازة بحكم الأمر الواقع (de facto ownership) من خلال الوكلاء (proxies) ليس خاصاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، كآلية غير رسمية (informal) للحيازة العقارية، فهي متجذرة في القوانين العثمانية التي كانت تحكم العقود الخاصة وتحمي حقوق الأفراد. على عكس القوانين السارية التي تحظر الملكية الصورية، تتضمن هذه القوانين أحكاماً تحدد كيف يمكن لمالك صوري أن يظهر كمالك رسمي نيابة عن المالك الفعلي الذي لا يرغب في تسجيل اسمه في الطابو، السجل العقاري الرسمي العثماني. ولا تزال هذه الممارسات منتشرة على نطاق واسع اليوم، يستخدمها السياسيون الذين يسعون إلى تجنب الشفافية والضرائب، ومكتومو القيد الذين يسعون إلى التملك، واللاجئون الفلسطينيون الذين مُنعوا قانونياً من ملكية العقارات بعد تعديل القانون الذي يحكم وصول الأجانب إلى الملكية، القانون 296/2001.
وقد لوحظ نقل الحقوق القانونية إلى الملاكين الصوريين بشكل أساسي في الأصول العالية القيمة مثل الأراضي والمباني الواقعة داخل حدود بلدية بيروت، وفي جبل لبنان، وفي الجنوب، وحول المخيمات الرئيسية. أما بالنسبة إلى الأصول الأقل قيمة، فقد كانت المنظمة في كثير من الأحيان تستغني عن التدابير الوقائية تماماً، معتمدة فقط على وجود إيصال لإثبات حدوث المعاملة. وتُستخدم هذه الإيصالات كدليل في النزاعات التي ينكر فيها المالك القانوني (البائع) إجراء المعاملة ويحاول استعادة الممتلكات. واليوم، يلعب هؤلاء الملاك القانونيون أنفسهم أدواراً مهمة في التصفية القسرية للشقق، حيث يتصرفون إما بشكل مستقل أو بالتنسيق مع أطراف ثالثة، قد يكون لديها إمكانية الوصول إلى السجلات «المفقودة» للمعاملات الأصلية، مما يهدد السكان الحاليين -معظمهم لاجئون- ويقضي على أي إمكانية لاستعادة منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية لرأس مالها الثابت.
تنشأ إشكالية قانونية أخرى تُضعف أكثر، بل قد تقطع، مطالبة منظمة التحرير بحيازة هذه الأملاك بحكم الواقع عندما يُقدم المالكون القانونيون على بيعها مرة أخرى. وغالباً ما تُنفَّذ هذه المبيعات بشكل متعمّد لطمس الحقوق الأصلية وفرض واقع اجتماعي -قانوني جديد حول الملكية بهدف الاستحواذ على قيمتها الاقتصادية. وفي عدة حالات، أدّت سلسلة من المعاملات الصورية التي جرى تثبيتها عبر مجموعة متتالية من العقود الموثّقة إلى تشويش مطالبات الملكية، وإلى تقويض موقع منظمة التحرير بشكل كبير. وقد جاءت هذه التحويلات الصورية أيضاً نتيجة صراعات سياسية داخلية حول كيفية الاستفادة من القيمة الاقتصادية لهذه الأصول، وكذلك حول السياسة العامة للسلطة الفلسطينية تجاهها. وكان الضغط على المالك القانوني -سواء لحمله على التنازل عن الملكية لشخص معيّن، أو على العكس لإجباره على رفض أي تنازل- إحدى صور هذه الصراعات الداخلية.
التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في مسار الملكية
من هنا، يمكننا الانتقال إلى النقطة الرابعة التي تساعد في توضيح حالة هذه الممتلكات: التغيرات الاجتماعية والأحداث السياسية التي أثرت في من يستخدمها ومن يملكها بالفعل.
في حالة الشقق السكنية -خاصة خلال حرب المخيمات، ومغادرة بعض العائلات، وتشريد أخرى- قامت المنظمة، من خلال فصائلها، بتخصيص شقق معينة للاجئين. كان من المفترض أن يستمر هذا الترتيب حتى عودة الاستقرار. لكن بعض العائلات تعيش في هذه الوحدات حتى اليوم، وهو وضع ينطبق على عدد من الشقق في الفاكهاني والمباني المعروفة بأنها تابعة لمنظمة التحرير في المنطقة.
في حالات أخرى، وبعد توقّف المنظمة عن نشاطها السياسي والعسكري في لبنان عقب خروجها عام 1982، وبقاء عدد من كوادرها وكوادر الفصائل التابعة لها في البلاد، مُنحت بعض الشقق لهؤلاء الكوادر كنوع من مكافأة التقاعد، أو تقديراً لخدمتهم العسكرية والسياسية.
وتمتلك عائلات هؤلاء الكوادر وثائق تشير إلى أن المنظمة تخلّت لهم عن هذه الملكيات. إلا أنّ هذه الشقق تعود قانونياً إلى المالكين اللبنانيين الذين باعوها أصلاً للمنظمة -وما تزال مسجّلة بأسمائهم في قيود الملكية- ومع الارتفاع في القيمة الاقتصادية لهذه الأملاك، ظهرت ممارسات ابتزاز تهدف إلى طرد عائلات اللاجئين أو عائلات الكوادر السياسيين من السكن بغية إعادة بيع الشقق.
في بعض الحالات، تمكنت بعض العائلات من إثبات حقوقها، أمام القضاء، لما تمتلكه من الوثائق، وذلك في ظل غياب أي تدخل رسمي من المنظمة لوقف هذه الممارسات. وفي هذه الدعاوى، استندت المحاكم إلى عدم مشروعية موقف المالك القانوني، الذي كان قد باع العقار للمنظمة فعلياً، أكثر مما استندت إلى وضع العائلة بوصفها مالكة بحكم الواقع.
لكن في حالات أخرى، «يخسر» المالك القانوني العقار، بسبب مشكلات مالية يتعرّض لها. وقد حدث ذلك، على سبيل المثال، في حالة شقّة كانت تسكنها عائلة أحد كوادر منظمة التحرير، بيعت الشقّة في مزاد علني، وبقيت العائلة في الشقّة، باعتبارها الملكية التي مُنحت لها من قبل المنظمة. ومع غياب أي وثائق تُثبت تنازل المنظمة عن الملكية، أصبح وضع هذه العائلة القانوني ضعيفاً جداً، فاضطرت إلى توقيع عقد إيجار مع المالك القانوني الجديد الذي اشترى الشقّة في المزاد، وكان متفهّماً لظروف العائلة وللتاريخ القانوني والفعلي المعقّد للملكية.
يمكن لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تخصيص جزء من جهدها المؤسسي، والاعتماد على ما في حوزتها من وثائق، لضمان ترتيبات سكنية أكثر استقراراً لهؤلاء السكان
ومع ذلك، لم تتمكّن عائلة من شراء الشقّة عبر المزاد، رغم رغبتها وقدرتها المالية على ذلك. فقد جاءت عملية البيع بعد تعديل الإطار القانوني المنظّم لملكية الأجانب للعقارات، وهو التعديل الذي ألغى فعلياً حق الفلسطينيين في التملّك المذكور آنفاً. وفي حالةٍ أخرى، استطاع ساكن إحدى الشقق التي تعود إلى المنظمة، والذي يدّعي أنه حصل عليها من أحد الفصائل، أن يشتريها بمبلغ زهيد جداً من المالك القانوني الذي كان يضغط عليه للخروج أو للشراء، والذي كان بالفعل يبيع شقته للمرة الثانية.
وتُظهر هذه التعقيدات أنّ وضع ملكية هذه الشقق والمباني لا يمكن اختزاله في سردية واحدة تُصوّر المالك القانوني بوصفه متغوّلاً على حقوق الآخرين، أو تُصوّر المنظمة كجهة تسعى إلى إفراغ هذه الشقق وتصفيتها.
عند الانتقال إلى الممتلكات ذات القيمة العالية، مثل قطع الأراضي والمباني، بما في ذلك مكتب المنظمة والقطع الأربع المحيطة به على كورنيش المزرعة، فالمسألة هنا لا تتعلق بعملية التصفية في حدّ ذاتها، ولا بمَن استفاد منها. فمن المعلوم، على سبيل المثال، أن السفارة الفلسطينية الحالية أُنشئت نتيجة تصفية هذه العقارات، التي تُراوح قيمتها السوقية، في الحدّ الأدنى، بين 9 ملايين دولار و13 مليون دولار. وتُظهر هذه الحالة وحدها الحجم المالي للمحفظة العقارية الأوسع للمنظمة.
ينصب التركيز هنا على كيفية تحوّل تعقيدات حقوق الملكية، ولا سيّما في حالة «الملك السياسي»، إلى موضع نزاع وصراع. وهذه التوترات تزداد حدّةً مع الانقسامات السياسية، ومع ارتفاع القيمة النقدية للعقار، وتعاظم دوره في تمويل عمل المؤسسات السياسية أو المدنية الفلسطينية، أو في خدمة مصالح فئوية ضيّقة. وفي مثل هذه السياقات، ووفقاً للّحظة السياسية والظروف التاريخية، يصبح دور المالك القانوني (المالك الصوري/ الوكيل بالملكية) محورياً؛ إذ تمنحه النزاعات الداخلية وغموض ترتيبات الملكية هامشاً للتحرك واتخاذ المبادرة من جهة، وتعرّضه من جهة أخرى للضغط والابتزاز لحمله على التنازل عن الملكية القانونية بغرض البيع.
عندما انشقّت المنظمة على نفسها عام 1983 وتعمّقت الخلافات بين الفصائل المنشقّة -ولا سيما في ظلّ غموض ترتيبات الملكية وتعدّد الادعاءات الصادرة عن فصائل زعمت تمثيلها الشرعي للمنظمة، وفي ظلّ افتقار الفصائل المناهضة لعرفات إلى مصادر التمويل التي كان يتحكّم بها- برزت جهود منظَّمة للضغط على المالكين القانونيين لحملهم على التخلّي عن هذه الأملاك. وقد استُخدم العنف كإحدى وسائل الإكراه. وما إن كان يتمّ انتزاع التنازل، حتى تُباع العقارات على الفور لتمويل أنشطة تلك الفصائل. وكانت عمليات البيع تتمّ بأسعار أدنى من القيمة السوقية لتسريع الصفقات وجذب المشترين.
فقد تمكّن أحد الناشطين في الأسواق المالية، على سبيل المثال، من الحصول على عقار بكلفة زهيدة خلال تلك المرحلة بفعل هذه الترتيبات، إلا أنّه خسره لاحقاً في مزادات علنية لمصلحة مصرف لبنان، لا لأسباب تتعلّق بوضعية الملكية أو بشرعيتها، بل نتيجة تعثّر في أعماله ونشاطه المالي الخاص. البعض الآخر من المالكين الصوريين، سارعوا إلى التصرّف بهذه الممتلكات مباشرة بعد خروج المنظمة من بيروت، فباعوها لإغلاق أي احتمال لمطالبة مستقبلية من جانب المنظمة في حال عودتها. ومن بين هؤلاء شخصيات سياسية معروفة. وهناك أيضاً مثال لتاجر عقارات كان مالكاً صورياً لقطعة أرض، بدأ مسيرته في مجال المقاولات العقارية من خلال استثمار تلك الأرض وبناء مبان سكنية عليها.
ومع ذلك، استطاع بعض المالكين -ومعظمهم من أعضاء المنظمة- الحفاظ على الممتلكات المسجّلة بأسمائهم من خلال اللجوء إلى مخرج قانوني تمثّل في تحويلها إلى أوقاف خيرية، ولا سيما الأراضي المحيطة بالمخيمات، نظراً إلى أهميتها الاجتماعية ودورها في استيعاب تمدّد هذه المخيمات. وبمجرد أن تصبح الملكية وقفاً خيرياً، فإنها تغدو غير قابلة للبيع في السوق العقارية، ولا يمكن حلّ الوقف في المستقبل بخلاف الوقف الذري؛ أي إنها لا تعود ملكية خاصة قابلة للتداول في السوق. ثمّ، فإن الخطاب الذي يروّج لفكرة أن مؤسسات الأوقاف قد استولت على ممتلكات منظمة التحرير لا يستند إلى أي أساس قانوني، إذ إن الوقف الخيري، بطبيعته، لا يمكن أن يُعاد تحويله إلى ملكية خاصة تتيح للمنظمة استرجاعه. وكان هذا الإجراء، في الواقع، قائماً على قناعة بأن المجتمع الفلسطيني يمكنه، على الأقل، الاستفادة من «حق الانتفاع» على الوقف، على فرض أن هذا ممكن قانونياً.
الخلاصة: بين القيمة الاجتماعية والاقتصادية لأصول منظمة التحرير الفلسطينية
إن الإشكالية المركزية المحيطة بممتلكات منظمة التحرير -بعيداً من انعدام الشفافية وملفات الفساد المرتبطة بعمليات التصفية الجارية، وهي ظواهر ليست حكراً على السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير، بل تمثّل سمة أوسع للممارسات الحكومية في المنطقة العربية- تكمن في القيمة الاجتماعية لهذه الأصول، وفي المنافع الاجتماعية المحتملة التي يمكن تحقيقها لمصلحة المجتمع الفلسطيني إذا ما جرى توظيف قيمتها الاقتصادية بصورة استراتيجية.
إن اعتماد المؤسسات العامة على القيمة التبادلية لأصولها العقارية، سواء عبر التأجير أو البيع، يُعد ممارسة مشروعة تماماً وواسعة الانتشار. ومن هذا المنطلق، يمكن تفهّم الإجراء الذي أطلقته السلطة الفلسطينية عام 2005 -كأول محاولة رسمية لحصر ممتلكاتها العقارية- نظراً إلى الأزمة المالية التي تواجهها من جهة، وإلى القيمة الاقتصادية الكبيرة لهذه الأملاك من جهة أخرى. غير أنّه في حالة مقرّ منظمة التحرير والقطع المحيطة به، برزت سريعاً نزاعات داخلية حول كيفية استخدام هذه الأصول.
فقد دعا أحد التوجهات إلى الاستثمار الطويل الأمد بهدف توليد إيرادات مستدامة عبر مشاريع تطويرية، بينما فضّل آخرون اللجوء إلى التصفية لتأمين حاجات عاجلة، مثل تمويل بناء السفارة الفلسطينية، وهو ما حدث في نهاية المطاف. وقد شكّل السعي إلى تحقيق الريع العقاري -سواء عبر العوائد الطويلة المدى أو عبر الرسملة الفورية- أرضية مشتركة بين التوجهين. ومن اللافت أنّ هذه النزاعات ظهرت حصراً في ما يتعلق بالمقرّ والقطع المحيطة به، في حين أنّ عمليات التصفية الأخرى مضت قدماً في شبه صمت تام.
والخلاصة الأساسية هي أن على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أن تأخذا في الحسبان القيمة الاجتماعية الحالية لهذه الأصول. فجزء كبير من مخزون الشقق تشغله عائلات لاجئة تفتقر إلى أي شكل من أشكال الحماية القانونية عند لجوء المالك القانوني إلى طلب الإخلاء. ويمكن لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تخصيص جزء من جهدها المؤسسي، والاعتماد على ما في حوزتها من وثائق، لضمان ترتيبات سكنية أكثر استقراراً لهؤلاء السكان.
وثانياً، يمكن لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية عقد شراكات مع مؤسسات أخرى بهدف ترميم أجزاء من هذا المخزون العقاري وتحسين ظروف السكن، على أن يُموَّل ذلك ولو من خلال بيع قطعة أرض واحدة للمنظمة. وليس هذا الطرح جديداً؛ إذ سبق لمنظمة التحرير أن دخلت في شراكة مع مؤسسة الحريري في المحيط المباشر لمخيّم عين الحلوة، وطوّرت قطعة أرض كانت تملكها إلى مبان سكنية لإيواء اللاجئين الذين جرى تهجيرهم من قلعة صيدا ومحيطها خلال عملية إعادة تطوير المدينة. ويكتسب هذا المقترح مزيداً من المصداقية إذا ما أخذنا في الحسبان المصلحة العامة المرتبطة بهذه الممتلكات، نظراً إلى أنها كانت قد اشتريت أصلاً بأموال الثورة الفلسطينية وبالدعم المالي المخصّص للمنظمة من أجل القضية الفلسطينية.
*باحثة في الدراسات الحضرية