أبو شريف رباح
9\12\2025
منذ انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية، صدرت عشرات الأحكام والمذكرات التي تدين قادة الاحتلال الإسرائيلي بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، المسؤولان عن إدارة حرب الإبادة والتجويع الممنهج ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، كما أدانت المحكمة عدداً كبيراً من قادة الجيش وضباطه الذين أشرفوا على المجازر والمذابح التي ارتُكبت بحق المدنيين على مدار الحرب.
ورغم صدور هذه المذكرات، ورغم أن بعض هؤلاء القادة يواصلون السفر والظهور في المحافل الدولية، إلا أن أياً منهم لم يُعتقل أو يُحاسَب حتى الآن، فالمحكمة استطاعت في حالات أخرى توقيف ومحاكمة قادة عرب ومسلمين وقادة دول من أوروبا الشرقية، إلا أن الأبواب تُغلق دائماً عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وكأن قادتها مُحصّنون من القانون الدولي.
ولعل أحدث الأمثلة على فاعلية المحكمة هو الحكم الصادر قبل أيام بحق محمد علي عبد الرحمن المعروف بـ”علي كوشيب”، قائد ميليشيا الجنجويد في دارفور بالسودان، بالسجن بعد إدانته بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تشمل القتل والتعذيب والاغتصاب. هذا الحكم وغيره يؤكد أن المحكمة قادرة على المحاسبة حين تتوفر الإرادة الدولية.
لكن عندما يصل ملف الجرائم إلى إسرائيل تتعطل العدالة، فعلى الرغم من أن الجرائم المرتكبة في غزة تُعد من أفظع جرائم العصر الحديث “إبادة جماعية، تجويع شامل، حصار خانق، تدمير ممنهج للبنية التحتية، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين”، إلا أن المجتمع الدولي يقف عاجزاً ومتواطئاً، فهل سيبقى قادة الاحتلال فوق القانون محميين بدعم سياسي وقانوني من القوى الكبرى وفي مقدمتها الإدارة الأميركية؟
إن استمرار إفلات مجرمي الحرب الإسرائيليين من العقاب لا يشكل فقط استخفافاً بالمحكمة الجنائية الدولية، بل يمثل صفعة للقانون الدولي برمته ويكرّس ازدواجية المعايير في أبشع صورها، فلا قيمة لقضاء دولي يُصدر الأحكام على الضعفاء بينما يعجز أو يتجاهل المجرمين الأقوياء، وإلى أن تتحقق العدالة وتُنفّذ المذكرات بحق من ارتكبوا جرائم العصر في غزة، ستبقى إسرائيل دولة فوق القانون وسيبقى العالم شريكاً في الجريمة بصمته وعجزه وتواطئه وغضّ الطرف عن الاحتلال.
وهنا لا يمكننا تجاهل الدور الذي لعبه الرئيس الفلسطيني محمود عباس والدبلوماسية الفلسطينية في فتح أبواب العدالة الدولية، فمنذ اللحظة الأولى لانضمام فلسطين إلى المحكمة، وجّه الرئيس محمود عباس القيادة السياسية والقانونية لخوض معركة طويلة على جبهات القضاء الدولي عبر تقديم الملفات المتكاملة حول جرائم الاحتلال، وإيفاد الوفود القانونية والسياسية إلى لاهاي، وحشد الدعم الدولي لضمان تحريك القضايا وعدم طمسها بفعل الضغوط الأميركية والإسرائيلية، وقد شكّل هذا الجهد الدؤوب للدبلوماسية الفلسطينية ركيزة أساسية في إبقاء ملفات الجرائم مفتوحة وفي انتزاع اعتراف دولي غير مسبوق بكون إسرائيل دولة تمارس الإبادة وجرائم الحرب والاضطهاد العنصري ضد الشعب الفلسطيني.