آخر الأخبار

منظور علم الاجتماع الإسرائيلي إلى القضية الفلسطينية والحرب في غزّة

Palestinian protesters wave Palestinian flags as Israelis carrying Israeli flags walk past in front of the Damascus Gate outside Jerusalem's Old City during a parade marking Jerusalem Day May 8, 2013. Jerusalem Day marks the anniversary of Israel's capture of the Eastern part of the city during the 1967 Middle East War. In 1980, Israel's parliament passed a law declaring united Jerusalem as the national capital, a move never recognised internationally. There were confrontations on Wednesday between Muslims and Jews outside Jerusalem's walled Old City, where al-Aqsa mosque is located. Police arrested 10 Palestinians, police spokesman Micky Rosenfeld said. REUTERS/Nir Elias (JERUSALEM - Tags: POLITICS CIVIL UNREST ANNIVERSARY) - RTXZF09

محمود صلاح

كاتب مصري

“تُؤكد الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (ISA) على موقفها الواضح وإعلانها الصريح الرافض للإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة، وإذ تؤكّد الجمعية إدانتها الصريحة، فإنها تؤكّد أنّه لم تعد هناك أيّة علاقات مؤسّسية مع المؤسّسات الإسرائيلية العامة. إننا نأسف لأنّ الجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع لم تتخذ موقفاً صريحاً يُدين الوضع المأساوي في غزّة، ومن ثم فإنّنا أصدرنا قراراً يعكس الخطورة الطارئة للوضع الراهن؛ وعليه فقد قررت اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لعلم الاجتماع تعليق العضوية الجماعية للجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع” (29/6/2025).

رغم أنّ هذا البيان الأحدث يأتي في سلسلة المواقف الأكاديمية الدولية المُعارضة للإبادة والحرب الهمجية على الشعب الفلسطيني، إلا أنّه يحتل أهمية خاصة، لأنه صدر من أبرز الرابطات العلمية الدولية، التي تجمع نخبة علماء الاجتماع في العالم، وقد نشأت الجمعية عام 1949 برعاية ودعم من منظمّة اليونسكو، وتحظى بمكانة واحترام عالميين، وينتسب إليها أكثر من خمسة آلاف عالم اجتماع، ويكشف البيان عن الحِدّة والشراسة للإبادة والظلم المستمرّ الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني؛ وهو ما دفع الرابطة الدولية إلى التدخّل واتخاذ قرار حازم تجاه نظيرتها المحلية في إسرائيل.

وكانت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في مقدّمة الروابط الأكاديمية الدولية التي تصدّت للمسألة منذ بداية العدوان على غزّة، ففي 19 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 أصدرت بياناً قالت فيه: “ليس مسموحاً فقط؛ بل من الضروري أن يضع العلماء الحرب الحالية في سياقاتها التاريخية الواسعة، بما فيها سياقات الاستعمار الاستيطاني”، وأعقب ذلك أقوى موقف أكاديمي غير رسمي، ففي 26/10/2023 حيث وقّع نحو ألفي عالم ومُشتغل بعلم الاجتماع عريضة يدعون فيها حكوماتهم إلى التدخّل الفوري لإيقاف الإبادة في غزّة، وكانوا أوّل من استخدم مفهوم الإبادة في المجال الأكاديمي علناً، حيث قالوا: “لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي ونحن نشهد استمرار حرب الإبادة”. وخُتِم البيان: “ندعو جميع زملائنا إلى التضامن مع الفلسطينيين والوقوف ضد الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية والإبادة الجماعية”.

لم تكتفِ الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بمجرّد الإدانة لما يجري، بل فضحت مشاركة الأكاديميين الإسرائيليين في حرب الإبادة، حيث ذكرت في بيان لها في مايو/ أيار 2025: “ندين الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في إسرائيل التي لعبت دوراً مركزياً في دعم نظام الفصل العُنصري، والاستعمار الاستيطاني للحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك ارتباط تلك الجامعات والمؤسسات بالمخابرات العسكرية، وعمليات قتل المعرفة”.

في سياق الإنشاء القسري للدولة، ارتبط علم الاجتماع الإسرائيلي الرسمي بصبغته الأكاديمية الجديدة بمشروع الدولة الصهيونية

كانت مشاعر الارتياح السائدة في أوساط علماء الاجتماع واضحة، خصوصاً أنّ استبعاد الجمعية الاسرائيلية جاء قُبيل انعقاد المؤتمر السنوي للجمعية الدولية في الرباط، في 6 يوليو/ تموز 2025، حيث سبقت انعقاده دعوات واسعة إلى مقاطعة العلماء العرب حضور المؤتمر؛ الأمر الذي عجّلَ بإصدار قرار تعليق عضوية الجمعية؛ والذي أثار حفيظة علماء الاجتماع الألمان والنمساويين الذين دانوا، عبر جمعيتهما، القرار، وأصدرت كلّ منهما بياناً لتفنيد دعاوى قرار التعليق، وكان البيان النمساوي الأعنف، حيث تضمّن قراراً بتعليق عضوية الجمعية النمساوية في الجمعية الدولية تضامناً مع الجمعية الإسرائيلية، كذلك دانت المواقف السياسية للجمعية الدولية المناهضة للعدوان على غزّة.

يصف علماء الاجتماع الإسرائيليين أنفسهم بأنهم يمثلون أحد المواقع القليلة المُتبقية للمقاومة النقدية في المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم نشروا رفضهم تعليق عضويتهم في الجمعية الدولية، لأنّ ذلك سُيضعف دورهم في المجتمع لمصلحة اليمين المتطرّف؛ في الوقت الذي يبرّرون فيه صمتهم تجاه ما يجري في غزّة بالقيود التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية على الاحتجاج والنقد والتدريس!

شهدت تل أبيب في سبتمبر/ أيلول 2024 أضخم تجمّعات احتجاجية في تاريخها، حيث احتشد ما يقارب نصف مليون مُتظاهر في ساحة “المختطفين” أو الأسرى، رافعين صور الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، في وقت كانت الاحتجاجات المُطالبة بإبرام صفقة لإعادة الأسرى الإسرائيليين تملأ شوارع المدن الكبرى في عموم البلاد، بشكل شبه يومي، بل طاول عديدٌ منها منازل كبار المسؤولين ودواوينهم، علاوة على الاعتصامات، والانتقاد العلني في الإعلام، والتواصل مع رؤساء الدول الأجنبية لمساعدتهم في الضغط على الحكومة لتعجيل توقيع صفقة تبادل، بينما يُصرّ بيان الجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع على أنّ منتسبيها “يشاركون في الاحتجاجات في ظلّ القيود التي يفرضها المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية على النقد في إسرائيل”، بمعنى أنّها مشاركة فردية لا تمثّل الجمعية بذاتها، التي تتجنّب أن تستخدم في منشوراتها مفهوم الإبادة الجارية في غزّة، وإن ندّدت بالدمار والقتل الواسع غير المسبوق الذي ترتكبه حكومة إسرائيل، وهو الأمر الذي يُشكّك بجدّية في دعاوى الدور النقدي الذي يحمله علماء اجتماع اسرائيل، وإن عبّرت حالات فردية منهم صراحة عن رفضها الإبادة التي ترتكبها إسرائيل. هذا في وقت أصدرت منظمتان إسرائيليتان شهيرتان (بيت سالم لحقوق الإنسان، وأطباء لحقوق الإنسان في إسرائيل) تقريرين مُنفصلين أعلنتا فيه “أن إسرائيل، بلا شك، ترتكب إبادة جماعية في غزّة”، وجاء في تقرير منظمة أطباء لحقوق الإنسان توصيف واقعي وكاشف بالقول: “انتهجت إسرائيل استراتيجية متعمدة لتقويض الشروط الأساسية للحياة. وحتى لو أوقفت هجومها العسكري اليوم، فإن آثار الدمار الذي تسببت به ستواصل حصد الأرواح بفعل الجوع والعدوى والأمراض المزمنة سنوات مقبلة. هذا ليس ضرراً جانبياً، وهذه ليست نتائج حرب فحسب، بل سياسة إقصاء وجودي ممنهجة. لقد خلقت إسرائيل بصورة منهجية، ظروف حياة لا تحتمل ولا تطاق، ونفت عن سكان غزّة أبسط مقومات البقاء. هذه إبادة جماعية واضحة المعالم”.

ويبدو واضحاً أنّ جمعية علم الاجتماع الإسرائيلية لم تجرؤ على مناقشة مفهوم الإبادة التي اتُّهمت بها إسرائيل، علاوة على أنّها لم تمارس دورها التاريخي النقدي؛ فهي لم تسع إلى فهم، وتحليل مقاومة الشعب الفلسطيني التي تجسّد حصاد 77 عاماً من التهجير والاحتلال والقمع.

وإذا كان علماء الاجتماع لا يملكون القدرة على إصدار تقارير تصف الواقع الإجرامي ويكتفون ببيانات -رد فعل- تُبيّض وجوههم أمام العالم، فإنّ ثمّة خللاً في بنية المعرفة التي ينتجونها، ويمكن فهم هذا الخلل عبر تحليل تطوّر أجيال علماء الاجتماع الإسرائيليين، لفهم حالة المعرفة التي ينتجونها وبنيتها، وما إذا كانت جزءاً من عملية الهيمنة على المجتمع، أو أنها مقاومة للهيمنة، وداعمة لاستقلالية العلم والعلماء … ويمكن القول إنّ علم الاجتماع الإسرائيلي مَرَّ بأربع مراحل أو أجيال رئيسية:

جيل علماء الاجتماع ما قبل 1948
بالرغم من أنّ قسم الاجتماع لم ينشأ إلا في 1948؛ إلا أنّ الفترة من عام 1925 – 1948 تُعتبر المرحلة المثالية التي لم تتكرّر، حيث سيطر على علم الاجتماع علماء قليلون هاجروا من أوروبا الشرقية، وروسيا، وكانوا متأثّرين بالفكرين القومي والماركسي، شأن أغلب المهاجرين الصهاينة في تلك المرحلة، والذين كانوا متأثّرين بالحركات الصهيونية الماركسية، والعمّالية، ورغم قناعات هؤلاء العلماء بأنّ إسرائيل وطن قومي لليهود، إلا أنّهم كانوا أكثر اعتدالاً وقبولاً للفلسطينيين، فكان في مقدّمتهم الفيلسوف النمساوي اليهودي، مارتن بوبر، الذي عمل أستاذاً للفلسفة الاجتماعية بالجامعة العبرية من 1938-1951، حيث كان متأثّراً بالرومانسية الألمانية، ومن ثم تصوّر اليهود أمّة روحية لها رسالة، الأمر الذي جعله يفهم الصهيونية بمنظار مختلف؛ حيث الصهيونية المُتعايشة مع غيرها من القوميات. ولذا دعا مع رئيس الجامعة العبرية (1935-1945) يهودا ماغنيس إلى قيام دولة واحدة ثنائية القومية، تجمع اليهود والعرب معاً في كيان وهوية سياسية واحدة، حتى لو اختلفت القوميات، فالدعوة إلى المصالحة والتعليم متعدّد الثقافات كانت أيضاً رؤية حزب إيهود الذي أسسه ماغنيس 1940، ليمثّل صورة للصهيونية الأخلاقية، ذلك الحزب الذي سعى إلى تحقيق التعاون مع الفلسطينيين والتفاهم معهم. ولكن البيانات التاريخية، بشكل عام، تُثبت محدودية تأثير تلك الحركة الفكرية وحزب إيهود وحضورهما بين دعاة الصهيونية واليهود عامة في فلسطين آنذاك، ولكن ما منحها تلك الحرية كان مُتمثّلاً بالاستقلالية الفكرية والأكاديمية التي تمتّعت بها نظراً إلى عدم وجود الدولة الصهيونية آنذاك. وبشكل عام، وبحسب الفيلسوف اليهودي، إرنست سيمون، الذي كان فاعلاً في حزب إيهود، كانوا ثلّة محدودة العدد والتأثير من المفكّرين ذوي الرؤية الصهيونية الأخلاقية، الذين كانوا يرفضون قيام الدولة بالقوّة، ولكن آراءهم لم تؤخذ بالاعتبار إلا عندما كانت تحدث ثورات وانتفاضات فلسطينية مثل انتفاضات 1921، 1929، 1931، 1939.

كان أغلب أساتذة هذا الجيل، رغم محدودية أعدادهم وتأثيرهم، يؤمنون بما أطلق عليه إرنست سيمون الإنسانية الدينية، التي ترى العالم ليس قائماً على مركزية الدين وحده، ولا مركزية الإنسان وحده أيضاً، بل دائرة مشتركة بهدف تحسين حياة البشر.

الجيل المؤسّس… علم اجتماع الدولة
لم تثنِ ويلات الحرب العالمية الثانية والمأساة التي حلّت باليهود الأوروبيين الحركة الصهيونية عن تطوير سلوكها العنصري الإحلالي؛ ففي مايو/ ايار 1942، وفي ذروة الحرب، عقدت الصهيونية العالمية مؤتمر بلتيمور في الولايات المتحدة، والذي شكّل لحظة تحوّل جذري في رؤية الحركة ومسيرتها، فبدلاً من الحديث عن وطن قومي، صار الحديث عن دولة يهودية، وكأنه لا وجود لشعب فلسطيني على الأرض منذ آلاف السنين. وكانت القرارات تدعو إلى بناء المؤسسات والجيش وتهجير ملايين اليهود إلى فلسطين، الذين تدفّقوا بكثافة مع نهاية الحرب العالمية الثانية؛ علاوة على الهجرة غير الشرعية، حتى إنه من 1945-1948 وحدها سُجِّل نزوح نصف مليون يهودي إلى فلسطين، ومن المُثير للاشمئزاز، حقاً، أن المُجتمِعين في بلتيمور قد ختموا مؤتمرهم بالقول: “يُعبر الصهاينة المجتمعون عن إيمانهم بالنصر النهائي للإنسانية والعدالة على الفوضى والقوة الغاشمة”!

مع اقتراب عقد الثمانينيات من نهايته بدأت تلوح للمرّة الأولى سردية جديدة تعارض السردية الرسمية السائدة

في سياق الإنشاء القسري للدولة، ارتبط علم الاجتماع الإسرائيلي الرسمي بصبغته الأكاديمية الجديدة بمشروع الدولة الصهيونية؛ فكان إنشاء أوّل قسم لعلم الاجتماع في الجامعة العبرية عام 1948، وارتبط ذلك برغبة أول رئيس وزراء في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في تسخير العلم والتقنية لخدمة الدولة الجديدة وتدعيم قوّتها وتفوّقها المُطلق، ومن ثم فقدت الجامعة استقلاليّتها السابقة، وصار علماؤها في خدمة الدولة الصهيونية، وعندئذ تولى شموئيل نوح أيزنشتادت رئاسة قسم الاجتماع، وتمكّن من تشكيل علم الاجتماع بصبغة أميركية، ذات طابع إمبريقي، حيث الدولة الجديدة تحتاج بيانات ومعرفة دقيقة عن المهاجرين الجدد، وكانت مشكلة التكامل والاندماج الاجتماعي للقوميات اليهودية في مقدّمة الأجندة البحثية، ومن ثم تبنّى علماء الاجتماع آنذاك النظرية الوظيفية؛ وبخاصة إسهامات تالكوت بارسونز، حيث الحاجة المُلحة لاستقرار البناء الاجتماعي والسياسي عبر التكامل والاندماج لأنساق المجتمع الجديد وعناصره، واستُثني الفلسطينيون من ذلك المجتمع، ومع تلاشي نفوذ حزب العمل في أواخر السبعينيات، وصعود اليمين، تحوّل أيزنشتادت ورجاله إلى النموذج الفيبري، حيث كانت رؤية ماكس فيبر الثقافية تقوم على فهم الحضور القوي للأديان، علاوة على فهم المعاني والرموز الثقافية، وهو ما ساعد العلماء على بناء معاني للرموز والهُويّات الثقافية التي ميّزت المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً أنّ اليهودية أصبحت معياراً مهمّاً للانتماء الجماعي وعاملاً أساسياً في التعبئة والانتخابات الإسرائيلية. ولتحقيق تلك الشرعية الدينية جادل أيزنشتادت بالمفهوم الذي رَوّجَ له “الحداثات المتعددة”، وكان يقصد أنّ نمط التحديث والتطوّر الاجتماعي الإسرائيلي يجب ألا يناظر النموذج الغربي التعدّدي؛ حيث لكلّ مجتمع مساره الحضاري المُختلف الذي يرتبط بهويته وبنيته الثقافية، وعندئذ يتبلور الدور الصهيوني لعلم الاجتماع، حيث تبرير الطابع القومي المغلق للمجتمع والدولة في إسرائيل يقوم على تفريد المجتمع، ومؤسّساته، وأنه يجب ألا يكون نسخة من المجتمعات الأوربية التعدّدية، بل له تعدّديته العنصرية، القومية.

كان أيزنشتادت مُتمركّزاً حول سردية تاريخه اليهودي المُتخيّل؛ لذا طرح رؤيته “سردية الاستمرار” للتاريخ اليهودي؛ ليبرّر بها عملية تحقيق الغاية الجمعية بقيام دولة إسرائيل، التي لا تعتبر وفقاً لهذا المعنى استعماراً، بل يعتبرها تحقيقاً مؤسسياً لرؤى ثقافية قديمة حملتها الجماعة اليهودية معها عبر التاريخ. وعندئذ يختفي الفلسطيني صاحب الأرض، فهو وتاريخه وثقافته، ليسوا في حسبان هؤلاء العلماء، أو أبحاثهم وكأنّ التاريخ بدأ من 1948 فقط وفقاً لتزييف متعمّد له.

علماء النقد الاجتماعي والمؤرخون النقديون
ارتبط حضور جيل جديد من علماء الاجتماع الإسرائيليين بظهور المؤرخين الجدد، ويُطلق على الفريقين مصطلح “المؤرّخون النقديون” وهم علماء الاجتماع والمؤرخون الذين رفضوا قبول سرديات قيام الدولة ومبرّراته، والتخلّص من الفلسطينيين، ومع اقتراب عقد الثمانينيات من نهايته بدأت تلوح للمرّة الأولى سردية جديدة تعارض السردية الرسمية السائدة. فقد أُتيح لمجموعة من المؤرخّين الاطلاع على آلاف الوثائق الحكومية التي أُميط اللثام عنها، كان في مقدّمتهم، بيني موريس، الذي أطلق على مجموعته المكوّنة من آفي شلايم، وإيلان بابيه، وسيمحا فلابان، المؤرخين الجدد، الذين يعارضون السردية القومية، بل يعتبرونها منهجية تهدف إلى زراعة هالة أسطورية تربط الإسرائيليين بالعبرانيين التوراتيين لتكريس دعوى الحقّ التاريخي في أرض إسرائيل، وتمّ ذلك عبر نسج شبكة مفاهيم لا يُقبل التشكيك فيها، مثل أرض إسرائيل بديلاً لفلسطين في حقبة الحكم العثماني والبريطاني، والعرب بديلاً من الفلسطينيين، وحرب الاستقلال بديلاً من النكبة، وأكّد المؤرخون النقديون أنّ الفلسطينيين ليسوا عرباً هائمين ولم يتركوا أرضهم وبلادهم برضاهم؛ بل أُجبروا عبر حرب عسكرية عنيفة ودموية على ذلك.

قطاع اجتماعي كبير ونافذ ومتطرّف في إسرائيل، يسيطر على الأرض، والسياسة والمجتمع

وكان علماء الاجتماع الجناح الآخر من المؤرّخين النقديين أمثال باروخ كيمرلينغ، وأُوري رام، وغيرسون شافير، لهم الدور الرئيسي في إسناد المؤرّخين الجدد، فقد تأثّروا بالنظريات الأكاديمية الغربية في السبعينيات والثمانينيات، مثل ما بعد الحداثة، ورفض أُحادية السرد التاريخي، ومن ثم نجحوا في تقديم مفاهيم جديدة على العقل الإسرائيلي، من أبرزها “الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية”، “والهيمنة، واستبعاد الأقليات وقمعها”.

تحدّث عالم الاجتماع غِرشون شافير أنّ المشروع الصهيوني نموذج نقي للاستعمار الاستيطاني. وتحدّث المؤرّخ إيلان بابيه عن التطهير العرقي الذي استخدمته الصهيونية في تهويد فلسطين، ويستخدم أورِن يفتاحئيل مفهوم “الإثنوقراطية ليصف طبيعة الدولة والنظام السياسي الإسرائيلي، الذي يأخذ بالديمقراطية لمصلحة الصهاينة فقط، أو كما قال: “إسرائيل ليست “ديمقراطية عادلة للجميع”، بل هي “نظام إثنوقراطي” يمنح امتيازات لـ”اليهود/المستوطنين” على حساب باقي السكان (العرب/ الفلسطينيين)”، لذا يصف ما يحصل بنظام الفصل العنصري الزاحف على حقوق الآخرين، حيث نظام الحقوق والمساحات مبني على أساس عرقي/ ديني، لا على أساس مواطنة متساوية، ومن ثم يرى أنّ الصراع ليس فقط “صراعاً على الأرض”، بل “صراع على الهوية والسلطة والتخطيط الحضري”، بمعنى أن السيطرة على الفضاء (الأرض، المدن، التخطيط) جزء من الصراع السياسي/ الاستعماري.

الجيل الرابع: الصمت وعلم اجتماع الاستيطان
لم يصمُد الجيل الثالث، بل كان يزداد تضاؤلاً وانسحاباً، حتى من بين باحثيه الأوائل، حيث يكشف بِني موريس (رفيق إيلان بابيه) عن قناعاته الصهيونية الكامنة، فقد رفض مقولة الاستعمار الاستيطاني، وأثبت أنه ليس يسارياً، بل قومي متطرّف يرتدي عباءة أكاديمية، فهو يصرّح إنه مواطن صهيوني، وحذّر من أن فهم كتاباته أنّها معارضة للصهيونية، وصار لا يبرّر، فقط، نكبة 1948 بالدعاوى الأمنية للوطن الجديد، بل صار يبرّر الإبادة الإسرائيلية على غزّة، فهو في أحدث مقابلة له في أغسطس/ آب الماضي في البرنامج الحواري الشهير Head to Head لا يجد غضاضة في رفض وصف ما يحدث في غزّة بأنه إبادة جماعية، حيث يستند إلى أنّ النية والقصد من العملية العسكرية لا يُشيران إلى أنّها إبادة، وبالخطاب الصهيوني المتطرّف نفسه يقرّر أنّ الحرب على غزّة ليست جريمة، ورفض تقبّل فكرة أنّ ثمة مجاعة في غزّة، بل برّر قصف إسرائيل للمستشفيات والمدارس لوجود حماس فيها.

العقل الصهيوني يتفهم الاستيطان والإبادة والاحتلال، حتى وإن تكلم بلغة العلم والتاريخ

ويجادل موريس بأنّ السردية والرؤية الإسرائيلية هي الأكثر موضوعية، فهو في مقابلة مع صحيفة لوس أنجليس تايمز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 يرى “اليهود أكثر حرية في التعبير عن آرائهم لأنهم لا يعيشون في ظل ديكتاتورية. وقد نجحت الصهيونية حتى الآن، بينما فشل النضال الوطني الفلسطيني. لذا، يشعر الفلسطينيون بأنهم لا يستطيعون إمداد العدو بالذخيرة من خلال التحدث علناً عن أخطائهم وجرائمهم. هناك تفاوت بين الجانبين”.

لا يتوقّف الوجه الحقيقي لعلماء الاجتماع والمؤرخين الإسرائيليين عن الظهور، إذ إنّ علماء الاجتماع يعكسون روح مجتمعهم وثقافته، وهو ما تؤكده العديد من الدراسات الاجتماعية الإسرائيلية، حيث قوّة مجتمع الـ”غوش أيمونيم” ونفوذه إشارة إلى حركة كتلة المؤمنين الصهيونية التي تأسّست عام 1974، حيث أقوى الحركات الاستيطانية في المجتمع والسياسة الإسرائيلية، بل صار لا يمكن تجاهل رؤيتها ومطالبها التي صارت أولوية لأيّ حكومة إسرائيلية، وهي تعمل على التهام الأرض الفلسطينية وفقاً لمفاهيمهم التوراتية، ومبادرتهم لارتكاب العنف في حال تهميشهم أو معاداة مطالبهم، فهو مجتمع لا يمكن أن يعود بسهولة إلى مربع السلام والتفاهم مع الشعب الفلسطيني، فلا صوت سيعلو على صوت معاداة الفلسطينيين ونزع أرضهم وسلبها، فصوت الاستيطان ومجتمع المستوطنين هو الأعلى والأقوى في المجتمع الإسرائيلي، بل سيكون إرثاً مستمرّاً لا يمكن إيقافه؛ فهناك قطاع اجتماعي كبير ونافذ ومتطرّف، يسيطر على الأرض، والسياسة والمجتمع.

فريق صامت عمّا يجري، وفريق مؤيّد للاستيطان، حتى وإن كتب بلغة مواربة، وهكذا يظهر علماء الاجتماع في فريقين، وأفضل مثال على ذلك بِني موريس، الذي كشف عن فظائع ارتكبتها العصابات الصهيونية في حرب 1948 وكان أقساها “حادثة اغتصاب فتاة من يافا أمام والدها ثم قتلهما معاً”، تلك الحادثة التي يعتبرها موريس جريمة حرب، في الوقت نفسه الذي يتفهّم فيه حدوث جرائم حرب في غزّة، فالعقل الصهيوني يتفهم الاستيطان والإبادة والاحتلال، حتى وإن تكلم بلغة العلم والتاريخ…

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة