آخر الأخبار

مقابر غزة.. الأموات لم يسلموا من الإبادة وتوابعها

GLNMVO9XIAEEr0Q

كشفت الأيام عن واحدة من أعقد المآسي الإنسانية التي ترافقت مع حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، حيث امتدت آلة الدمار إلى المقابر والمواقع الجنائزية، مخلفةً دمارا واسعا في مساحات الدفن ورفات الموتى.

وتشير مصادر في وزارة الأوقاف والجهات الحقوقية إلى أن آلاف القبور تعرضت للتجريف أو التخريب المباشر بفعل الدبابات والجرافات أو نتيجة القصف الجوي، فيما تُظهر صور الأقمار الصناعية وجود أضرار واسعة في ما لا يقل عن 16 مقبرة مركزية في غزة، من بينها مقابر ذات طابع تاريخي ودولي، وأخرى في مخيمات اللاجئين والمناطق السكنية المكتظة.

هذا الدمار لم يقتصر على تسوية القبور وتمزيق شواهدها، بل شمل أيضًا تحويل عدد من المقابر إلى نقاط تمركز للوحدات العسكرية الصهيونية، أو ممرات لوجستية استُخدمت خلال التوغل البري، ما أدى إلى تشويه مساحات واسعة من مواقع الدفن وفتح طرق جديدة داخل أرض المقابر نفسها.

عمليات البحث عن أنفاق مزعومة أو عن رفات “رهائن”، وفق ما تروّج له الرواية الصهيونية ترافقها تقارير ميدانية تؤكد حفر القوات الصهيونية القبور وإخراج رفات بعض الجثامين في عدة مناطق، في انتهاكات مثبتة في تسجيلات ميدانية وتقارير حقوقية دولية.

وقد أدى هذا الواقع إلى تآكل كبير في البنية الجنائزية للقطاع، ودفعت العائلات إلى دفن شهدائها في ساحات المدارس والحدائق العامة بسبب منع الوصول إلى المقابر أو تدميرها، فيما بقيت آلاف الجثامين تحت الأنقاض دون إمكانية انتشالها بفعل استمرار العمليات العسكرية.

تبحث عن رفات

كانت صابرين بعلوشة تحكي قصتها بصوتٍ لا يكاد يُسمع، وكأن الكلمات نفسها تخجل من مغادرة حلقٍ أنهكته الدموع. فقدت طفلتها الوحيدة “لين” (4 أعوام) بعد أيام من القصف المتواصل على حيّهم في شرق مدينة غزة.

حملتها بيديها المرتجفتين إلى مقبرة البطش، تلك المقبرة الصغيرة التي احتضنت مئات العائلات الغزية جيلاً بعد جيل.

تقول صابرين، في حديث خاص لـ”المركز الفلسطيني للإعلام”، إنها يوم دفن طفلتها، ظلت واقفة عند رأس القبر ساعات طويلة، تحدّثها كأنها ما تزال تتنفس، وتعدها بأنها ستعود كل يوم لتقرأ لها الفاتحة وتترك وردة صغيرة على التراب.

لكن الاجتياح البري غيّر كل شيء، فلم تمضِ أسابيع قليلة حتى امتلأ الحي بالدبابات، وبدأت الجرافات تشق طريقها إلى المقبرة.

تصف صابرين اللحظة التي عادت فيها تبحث عن قبر طفلتها وكأنها “وقفت على حافة العالم”، لم تجد مقبرة، لم تجد شواهد، لم تجد حتى ملامح المكان، الأرض كلها كانت قد سُويت، كأن يدًا ثقيلة عبرت فوقها وطمست كل شيء.

تقول إنها كانت تتحرك كالمجنونة بين أكوام التراب، تنبش الأرض بيديها العاريتين، تنادي باسم طفلتها، وتبكي حتى انقطع صوتها.

كانت تردد: “حتى قبرها… حتى حقها في أن تبقى هادئة… سرقوه:.

وبينما كانت نساء الحي يحاولن تهدئتها، ظلت عيناها معلقتين بالفراغ، تبحثان عن شيء لم يعد موجودا.

لم تعد تعرف أين رُميت رفات طفلتها، ولا إن كانت الجرافات قد مزّقتها، ولا إن كان الجنود قد أخذوها معهم.

تقول إن أكثر ما يمزق قلبها ليس فقدان ابنتها فهي تعرف أن الموت أخذها قبل ذلك بل فقدان مكانها الأخير، فقدان القدرة على زيارتها، على لمس التراب فوقها، على تذكّر أن لها عنوانًا في هذا العالم.

صابرين اليوم تعيش في خيمة قرب مدرسة إيواء، وتنام كل ليلة ويدها على صدرها حيث كانت طفلتها تشبك أصابعها الصغيرة.

وحين تسألها عمّا تبقى لها، تقول: “لم يتركوا لي شيئًا(..) حتى قبري الذي أبكي عنده سرقوه”.

وفي الصورة العامة، يظهر أن استهداف المقابر لم يعد حالة عارضة أو نتيجة جانبية للعمليات، بل بات جزءًا من مشهد دمار شامل طال الأرض والإنسان والذاكرة.

فداخل غزة اليوم، الموتى أيضًا أصبحوا ضحايا مباشرين للحرب، بينما تظل معاناة الأحياء مضاعفة بين فقدان أبنائهم وملاحقة حرمة قبورهم، في ظل غياب أي تحرك دولي فاعل لوقف الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها.

جريمة تطال الأحياء والأموات

مدير عام وزارة الأوقاف بغزة، أمير أبو العمرين، أكدّ أن الاحتلال لا يزال يسيطر على ثلث المقابر في قطاع غزة؛ معتبرا أنّ ما يجري في المقابر يمثل “جريمة مركّبة تطال الأحياء والأموات معًا”.

وأوضح في حديث خاص لـ”المركز الفلسطيني للإعلام”، أن الاحتلال “يتعمد ضرب الإنسانية في مقتل، ولا يتوقف عند حدود حرمة الموتى”.

وبين أن ثلاثة مقابر مركزية باتت تحت السيطرة العسكرية الصهيونية الكاملة، فيما يُمنع الدفن في مقبرة الشهداء الأكبر في القطاع التي تزيد مساحتها على 300 دونم، منذ الأيام الأولى للحرب.

وأشار إلى أن المقابر الواقعة شرق شارع صلاح الدين تُمنع فيها عمليات الدفن كليًا، وأن الاحتلال يسيطر على معظم المقابر الرئيسة في القطاع، ما فاقم أزمة الدفن إلى حدّ غير مسبوق.

وأوضح :أبو العمرين” أن مقبرة الشيخ رضوان، المغلقة منذ ثلاثة عقود، تعرضت للقصف المباشر، وتم إخراج جثامين منها وتدمير القبور، مضيفًا أن الأمر بات يتطلب تدخلًا دوليًا عاجلا ليُوارى الشهداء الثرى بكرامة.

وأوضح أن الاحتلال سرق جثثا من بعض المقابر، ومنع دفن جثامين أخرى تُركت في الطرقات حتى التهمتها الحيوانات، مشيرًا إلى أن عشرات الآلاف من الشهداء ما زالوا تحت المنازل المدمرة، وأن كل عائلة فلسطينية اليوم تكاد تفقد القدرة على دفن بعض أحبّتها.

وشدد أن الاحتلال ارتكب أفعالًا “فاشية” تستهدف حرمة الإنسان حيا وميتا، وأن الوزارة تمتلك إحصاءات دقيقة لعشرات المقابر التي يمنع الدفن فيها بالكامل.

وتصف منظمات حقوقية المشهد بأنه انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني الذي يحمي المقابر والمواقع الدينية من أي مساس ما لم تكن هدفًا عسكريًا مباشرًا، معتبرةً أن ما يجري قد يرقى إلى مستوى جرائم الحرب، خاصة مع تكرار عمليات التجريف وتسوية القبور، ووجود أدلة على إخراج رفات وفتح قبور بالقوة.

ومع تواصل هذا النمط من الاعتداءات، تزداد الأزمة الإنسانية تعقيدًا، إذ تتآكل المساحات المخصصة للدفن، فيما تُفقد شواهد قبور، ويصعب على مئات العائلات تحديد مواقع دفن ذويها في ظل الفوضى الناتجة عن العمليات العسكرية الواسعة التي لا تزال مستمرة رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار بغزة منذ قرابة شهرين.

 

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة