شفيق جرادي
كل حركة تغييرية تبدأ بفكرة، إلا أنّ الفكرة تبقى عُرضة للإبهام والتبدّل ما لم تتحوّل إلى رؤية، والرؤية قد تتحوّل إلى أمر طوباوي أو تجريدي تحفّه مخاطر التشويه والغشاوة والالتباسات ما لم يتحوّل إلى مشروع تتجلّى الرؤية فيه قيماً، وتبعث في فكرته الحياة. خاصة عندما يرسم المشروع لنفسه سياسات وإجراءات فاعلة، وآليات وأدوات تحقق الأهداف المتوخاة. والأهم، وهنا بيت القصيد، حينما يصبح المشروع متجسّداً بأمّةٍ ومجتمعٍ متجذّر بانتمائه وبأرضه، وبمعرفة حقوقه والواجبات المسؤول عنها والتي يؤدّيها بكل وفاء.
انطلاقاً من هنا، فما أريد إثارته من تساؤل حول: هل المقاومة الإسلامية تنطبق عليها صفة المشروع المتجذّر والثابت بمجتمع وأمّة؟ أتحسّس طريق الإجابة عن ذلك وفق خضم من الحياة التي عشتها لأكثر من خمسين عاماً في التجربة الإسلامية، ووفق متابعتي للدور والفعل والقول الذي كنت أتابعه منذ بدايات جهاد سيد شهداء الأمّة السيد حسن نصرالله. وسأعود إلى ما هو محفورٌ بالوعي والوجدان من الهداية القرآنية لحركة الأمم المجاهدة في سبيل ربها والدفاع عن المستضعفين.
لقد تماهى وعي السيد نصرالله ووجدانه بخميرة الحياة الجهادية العابدة التي تربّى عليها من تجارب حيّة مثّلت له قِمماً من الرمزية الجهادية في وجدانه ووعيه الإسلاميين، من ذلك شخصية الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، بما قدّمه الأول من طموح في تغيير الواقع السياسي والشعبي، ورفع الظلم عن الحرمان، ومجابهة الاحتلال الإسرائيلي، ورموز الإقطاع السياسي. وبما مثّله الثاني من بلورة لفكرة الإسلام بقيادته للحياة والصمود في وجه الحاكم الطاغية حتى الشهادة. ثم عاش من كثب فعل وحركة ومقاومة أستاذه المعلم الشهيد السيد عباس الموسوي الذي تتلمذ وتربّى في حاضنة كل من الإمامين السيد موسى الصدر والسيد محمد باقر الصدر. وسرعان ما انخرط في التحوّل العالمي الذي أحدثه الإمام الخميني على صعيد قيام الثورة، وبناء الدولة الإسلامية في إيران.
وهو تحوُّل لم تقتصر آثاره على الجنبة السياسية وحدها، بل كان له الأثر الثوري في وعي الإسلام كنظام حياة، وصوغ الرؤية الإسلامية على أصول من النهوض. وامتدّ الأمر ليرى كيف أن الفكرة تأصّلت بالرؤية، والرؤية تجذّرت حينما تجسّدت بأمّة لها دولتها. واستمر الحراك مع قيادة الإمام الخامنئي في كل قول وفعل وقرار كان يرى فيه سيد شهداء الأمّة أنه بناء لنهضة ثورية إسلامية تتجه نحو طموح بناء حضارة إسلامية قادرة؛ وأن الاستجابة لهذا النداء الإلهي لا بدّ فيه من قيام في كل أرض عبر تجسيد مجتمع المقاومة.
صانع مجتمع المقاومة
قبل الانتقال بالحديث حول الإطار العام لمشروع المقاومة الإسلامية، من لازم القول الإقرار بفضل الإدارة القيادية والجاذبية الواعية لسماحته في بناء وترتيب كل مستلزمات تشكيل ما يسمّى اليوم ببيئة المقاومة، وبيده وبجهده وبتوظيفه كل إمكانية في سبيل هذا الهدف، حتى وصلنا لليوم الذي صارت فيه المقاومة مجتمعاً شاهداً وفيّاً لبطله الشهيد الذي انحفر اسمه ورمزه مع كل شهيد للمقاومة، حتى صحّ القول «سيّد شهداء الأمّة». وهنا صدق استشراف الشهيد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية: «أننا لم نعد حالة بل صرنا مجتمعاً والمجتمع يستحيل عليه أي مخطط اقتلاع». بل زاد الأمر بعد شهادة السيد أن المجتمع المقاوم اليوم صار هو بوصلة القيادة، فضلاً عن أنه اليد التي تبطش وتبني وهو مجتمع ولّاد لمن يحملون الراية.
اسم مشروع المقاومة وخصائصه
إن كان لكل مرحلة في حياة التطوّر والتجدّد تسمية، فإنّ لمشروع المقاومة اليوم اسمها الخاصّ الذي يتكامل فيه مع الإسلام التقليدي، والإسلام الحركي، والإسلام الثوري، وغيرها من صيغ إيجابية. التسمية اليوم «إسلام النهضة المقتدرة». والمهم هنا، أن نبيّن نظرية فلسفية في التطوّر تبنتها الفلسفة الإسلامية وهي تقول: إنّ كل نوع أعلى في مراحل الوجود إنما يحمل داخله أنواع مراحل سابقة عليه. والمرحلة اليوم لمشروع الإسلام المعاصر تحتضن ودونما أي إقصاء ما سُمّي بالإسلام التقليدي وما بعده من إسلامات صادقة العهد مع الله.
لكن إسلام النهضة وإن لم يُقص الإسلام التقليدي في عباداته وشعائره وطرق علاقته مع الله والإنسان، إلا أنه بثّ في كل ذلك روحاً ثورية قصديّة تسعى نحو الغايات والأهداف، ليس ضده، لكنه ليس هو، بل إنه هوية أكثر فاعلية في الكدح نحو الله عن صراط خدمة الإنسان والمظلوم على وجه أخصّ. وقد هال هذا المشروع النهضوي اقتصار نخب المسلمين على مجرد التوعية الفردية أو الإصلاح المجتمعي داخل سلطة الطاغوت، لأنه يعتبر أن الإسلام إنما يدعو إلى المقاومة بما يمتلك من إمكانات في مواجهة الطاغوت، وأن الوعي والإصلاح الفردي والمجتمعي يتحققان وينموان حكماً في خضم الصراع ضد جبهة الباطل والطغيان لا سيما الاحتلال منه.
وقد استندت هذه الرؤية للمشروع على فكرة «النِفرة» الواردة في موردين في القرآن:
المورد الأول: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة، الآية 122]. والتي أطلق عليها الإمام الخامنئي في ما بعد اسم «جهاد التبيين» واشتغل في رسم صور حركيتها سيد شهداء الأمّة في كل تدبير إجرائي، أو سياسة عمل جهادي مع الناس، أو ضد الوعي، وصولاً لما أطلق عليه اسم «كي الوعي» عند العدو.
المورد الثاني: ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. [سورة التوبة، الآية 41]. وهي ترتكز على أن الجهاد والقتال تكليف إلهي يعكسه فعل التزام المجاهدين في حياتهم النضالية ضد الباطل. وأن عليهم القيام بأدائه بالإمكانات المتاحة وبقدر تلك الإمكانات كبرت أم صغرت. ولا حجة لأحد للتخلّف عنه تحت ذريعة تعاظم قوة العدو. وهو هنا المقاومة المسلّحة والمتدرّعة بمعنويات الثقة بالله وأداء التكليف، كما المتدرّعة بالعقلانية في أساليب ممارسة فعل المقاومة المسلّحة، والتحضير لكل مستلزماتها النوعية.
لذا، جاءت صيغ مبادئ البصيرة والصبر على الشدائد والنوازع كشروط لازمة لتحقيق الأهداف الموصلة للنصر لو تحقق بشروطه الموضوعية، والنصر بالشهادة باعتبارها المستوى الأكمل من فعل الالتزام بالتكليف في مسؤولية صدق العهد مع الله والمستضعفين في الأرض. وبين المستوى الأول «جهاد التبيين»، والمستوى الثاني «فعل القتال المسلّح» تنزرع في أرض الأمّة مبادئ وقيم وسياسات خدمة الناس، وإحياء الشعائر، ووعي المفاهيم بعيشها، وبناء المؤسسات المجتمعية والانخراط السياسي كمكونات لقيام مجتمع المقاومة المتجذّر بالناس في أرضهم ووطنهم وواقعهم اليومي.
مرجعيات مشروع النهضة
نعتقد بمرجعيات ثلاث نبت فيها مشروع السيد نصرالله:
المرجعية الأولى: التدبّر في القرآن الكريم باعتباره خطاب الوحي الإلهي للناس كافة، ونور هدايتهم سُبُل السلامة. والقرآن الكريم كتاب هداية الناس أفراداً في كمالاتهم الروحية والعملية، وجماعات في رسم أهدافهم التي ينبغي أن تصب في الوحدة الإنسانية باعتبارها صورة القوة والعزة. فلا توقف عند الخصوصيات المذهبية والطائفية والفكرية طالما أن وحدة القضايا الإنسانية هي الجامعة، فلها كل الأصالة، فلتكن من المذهب أو الفكر أو الطائفة التي تُحِب شرط أن لا تتحوّل أي منها إلى صنم يعيق وحدة إنسانيتك أمام الحق الإلهي والتبرّي من كل أبالسة العالم ومثيري الفساد والفتن فيه. لذا، فوفق المرجعية القرآنية، إنّ مجتمع المقاومة لا يقتصر على حدود مذهب أو طائفة.
المرجعية الثانية: تحرير فلسطين، وفلسطين المُغتصب حقها شعباً وأرضاً ومقدسات وتاريخاً هي رمز المظلومية في العالم وتاريخه المعاصر. وهي دعوة لكل فصيل مهما كان عنوانه للالتحاق بركب تحريرها بالعمل المسلّح أولاً، وباستراتيجية تحرير شاملة ثانياً. بل إنّ مقولة «تعددية الأقطاب» التي يدعي أصحابها أن لكل قطب قضيته المركزية هي تشظٍّ للقضية الجامعة للإنسان وهي حبّنا فلسطين.
فبمقدار القرب أو البعد عنها نمتلك معيار الحكم على كل علاقة إقليمة أو دولية. فضلاً عن العلاقات المحلية الوطنية، أو تلك البينية بين الأحزاب والقوى والجماعات. فمثلاً كان يرى سماحته كما أن المجالس الحسينية لا ينبغي أن تخلو من ذكر المقاومة والشهادة، فكذلك الإعلام ينبغي أن يكون مقاوماً كما الأدب والفكر والشعر جميعها ينبغي أن تحضر فيها فلسطين والقدس وغزة. المرجعية الوطنية والمجتمع الوطني: يعتقد السيد نصرالله أن مقاومة لا جذر وطنيّاً لها هي جماعة من الغرباء، أو الضيوف الذين يسهُل اقتلاعهم. أمّا إن كانت مستندة إلى أرضها ووطنها، وبالتالي إلى مجتمعها، فتزول الدنيا ولا يمكن لإرادة غاشمة غريبة أن تزيلها، شرط أن تمتلك تلك المقاومة إرادة البقاء والثبات وحكمة إدارة مهماتها في ما هو وطني من دورها، وما هو ثوري جهادي في عقيدتها السياسية والجهادية.
وبالتالي، فإنّ حفظ لبنان ومشروعه الوطني هو في قلب المرجعية للمشروع النهضوي الإسلامي، كما هو الحال بخصوص مرجعية فلسطين الأهم والميزان مرجعية القرآن. لذا، فالمقاومة تحمل مستويات ثلاث في هويتها: الإسلامية، القومية، والوطنية، وأي خلل في أي بعد سيؤثر على جوهر المقاومة الإسلامية. من هنا، فإن علاقتها مع كل القوى في لبنان والعالمين العربي والإسلامي هو انسجام مع جذريتها المبدئية في مرجعيات تشكّل الهوية. وقد تولّد، بفعل المقاومة الإسلامية، بعدٌ مرجعيٌّ رابع هو: محور المقاومة الإقليمي والمحلي بساحاته وقواه، وهو ما يحتاج إلى مقالة أخرى.
* مدير «معهد المعارف الحكميّة»