آخر الأخبار

مآلات الفشل الإسرائيلي في تحقيق النصر المطلق؟

5yrtT

وسام أبو شمالة

بعد السابع من أكتوبر /تشرين الأول عام 2023، سيطر مفهوم “النصر المطلق” و”الحسم العسكري” على الخطاب العام الإسرائيلي، بيد أنه بعد حرب الإبادة على غزة والتي اتسعت لتضم جبهات أخرى، انكشف الفشل الإسرائيلي في تحقيق الحسم العسكري والسياسي أمام مختلف الجبهات، باعتبار أن مفهوم النصر المطلق يتطلب إخضاع الطرف المقابل واعترافه بالهزيمة، وليس أمام الطرف المهزوم إلا خيار واحد، وهو التوقيع على وثيقة الهزيمة والتسليم الكامل بنتائج الحرب التي يفرضها الطرف المنتصر.

بيد أن القدرة التدميرية الإسرائيلية العالية للقدرات العسكرية والمدنية والبشرية لم تؤدِّ إلى نصر مطلق وحاسم، لأن ما لم تفهمه الحكومة الإسرائيلية هو أن النصر لا يقاس بالقدرة على التدمير، بل بقدرة المستوى السياسي على تحقيق أهداف واقعية وقابلة للقياس، لا وضع أهداف، لا يمكن ترجمتها إلى نتائج استراتيجية وسياسية.

دفع الفشل الإسرائيلي في تحقيق النصر المطلق، مختلف مراكز التفكير والبحث الإسرائيلي إلى إجراء دراسات معمقة، هدفت إلى إعادة بناء مفهومي “النصر” و”الحسم”. كما أدركت أوساط داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الأدوات التقليدية العسكرية غير قادرة على تحقيق الحسم أمام مقاومة قادرة على خوض معارك استنزاف طويلة وحرب عصابات قادرة على إنهاك الجيوش النظامية الكلاسيكية، الأمر الذي كشف عن أزمة عميقة في قدرة “إسرائيل” على فرض إرادتها في حروب طويلة ومعقدة.

فرضت النتائج غير الحاسمة للحرب الإسرائيلية على غزة ومختلف الجبهات، على المنظّرين في الأمن والسياسية والاستراتيجية الإسرائيلية، مطالبة المستوى السياسي بصياغة أهداف قبل الحرب لا تطرح تحقيق هزيمة عسكرية كاملة للطرف الآخر، بل يجب أن تكون أهدافاً محدودة وقابلة للقياس نسبياً، بما يسمح للقيادة الإسرائيلية بتبرير إنهاء العمليات العسكرية حتى مع بقاء “العدو” في حالة تماسك نسبي أو احتفاظه بأدوات قوة.

تعتبر الطروحات الإسرائيلية التي تقر بالفشل في تحقيق الحسم الكامل والنصر المطلق، تحولاً مهماً، ويعد اعترافاً بفشل “إسرائيل” في تحقيق الحسم العسكري الكامل، وأن مفهوم النصر الخالص مستحيل.

أدت النتائج غير الحاسمة للحرب، إلى اختلافات وصراعات ظاهرة ومخفية، بين المستويين العسكري والسياسي، ما يعد

تحولاً في العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، ومردّه في الأساس،  إلى رغبة كل طرف تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل في تحقيق الحسم، فالمستوى العسكري يتهم المستوى السياسي بعدم قدرته على ترجمة ما يسميه الإنجازات العسكرية التكتيكية إلى نصر سياسي، وفي المقابل يتهم المستوى السياسي المستوى العسكري بعدم قدرته على تحقيق الهدف الأساسي من الحرب وهو الحسم الكامل وإخضاع “العدو” بعد تدميره والقضاء عليه، الأمر الذي زعزع الثقة بين المستويين، ودفع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى إقالة وزير الأمن السابق يوآف غالنت، باعتباره كان يعكس موقف المستوى العسكري، على الرغم من كونه يمثل المستوى السياسي، كما برزت مساعي اليمين الفاشي لتوريط “الجيش” الإسرائيلي في حرب بلا نهاية لتحقيق أهداف أيديولوجية لا تصب بالضرورة في مصلحة “إسرائيل” الاستراتيجية، وتؤدي إلى احتلال كامل لغزة والاستيطان فيها والسيطرة على مليوني فلسطيني، ما سيكلف الجيش الإسرائيلي أثماناً باهظة أمنية واقتصادية عوضاً عن الأضرار السياسية على “إسرائيل”.

من أوجه الخلاف الناشئ بين الطرفين العسكري والسياسي الإسرائيليين، بعد الفشل في تحقيق النصر المطلق، أنه منذ بدايات الصراع العربي الإسرائيلي لم يضع المستوى السياسي هدفاً بحسم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية باعتبارها حركات لادولانية، وأن الحسم معها يتطلب حرب استنزاف طويلة وباهظة الثمن يصعب تحملها، كما سيؤدي القتال في أماكن مكتظة بشرياً إلى ارتكاب جرائم ستؤدي إلى تآكل شرعية “إسرائيل”، بيد أن هذا المفهوم المتفق عليه تاريخياً بين الجانبين العسكري والسياسي، تبدد في الحرب الأخيرة.

أدى عدم قدرة إسرائيل على حسم الحرب لمصلحتها، إلى تناقض في السردية الإسرائيلية، فمن جهة تدعي أنها حققت الانتصار وهزمت المقاومة الفلسطينية وقضت على قدراتها العسكرية وقياداتها، وتصف المقاومة بأنها تحوّلت من “جيش” يتمتع بالقدرة على التحكم والسيطرة، إلى مجموعات صغيرة مفصولة عن القيادة ومحصورة في إطار حرب العصابات، ومن جهة أخرى تتحدث الحكومة والجيش الإسرائيليين عن خطر عودة المقاومة إلى ترميم قدراتها وتعاظم قوتها، على الرغم من أنها ادّعت أنه جرى القضاء عليها أو على الأقل أُعيدت ثلاثين عاماً إلى الوراء، ما يبرز حالة التناقض في الرواية الإسرائيلية ما بعد الحرب، كأحد تداعيات فشلها في تحقيق النصر.

إن هذا التناقض يُظهر أن “إسرائيل” التي أعلنت على لسان رئيس حكومتها، أنها غيرت الشرق الأوسط، غير ذي صلة بالواقع، فمن يصدق أنها غيرت الشرق الأوسط وهي غير قادرة على حسم معركتها مع “أضعف أعدائها” في جزء من الجبهة الفلسطينية في ساحة غزة، على الرغم من استخدامها كل وسائل التدمير والإبادة طيلة عامين ويزيد، إلا إذا كانت تعني تغيير الشرق الأوسط ليصبح أكثر عداءً وتوجساً من “إسرائيل ” حتى باتت الأخيرة تضع دولاً تنتمي للشرق الأوسط بعد “تغييره” تحت تصنيف دولة “عدو” كقطر وتركيا، وأنها أصبحت تجاور نظاماً تصنفه “إرهابياً” في سوريا، وتعلن أن المعركة ما زالت مفتوحة مع اليمن وإيران، اللتين دخلتا ساحة الصراع مع “إسرائيل” من بابه الواسع في معركة فُتحت، ولا يعلم أحد متى وكيف ستنتهي؟

أما مسارات التطبيع فمن الواضح أنها لم تعد سهلة، في ضوء خشية الدول المطبعة أو المؤهلة كافة، من حالة الجموح والرغبة في التوسع والهيمنة التي تسيطر على العقلية الإسرائيلية التي استعادت أحلام “إسرائيل الموعودة”، الأمر الذي دفعها إلى إعادة النظر في اندفاعها نحو التطبيع.

إن مآلات الفشل الإسرائيلي في حسم الحرب في غزة وجبهات القتال الأخرى، لم تغير الشرق الأوسط وحسب، بل غيّرت العالم أجمع، ولكن ليس في مصلحة “إسرائيل” كما يدعي نتنياهو بل في غير مصلحتها، إن لم يكن في المدى المنظور ففي المدى القريب أو المتوسط، على أبعد تقدير، وإن المؤشرات الدالة على حالة العزلة الدولية وانهيار أسهمها في الرأي العام العالمي وتحولها إلى دولة منبوذة، لا تبشر “إسرائيل” بمستقبل مشرق بل بمصير مجهول محكوم بتحولات ومتغيرات باتت متسارعة وربما مفاجئة.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة