حكم شهوان
تواجه «الأونروا» (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين) أخطر مرحلة وجودية منذ تأسيسها، والأسباب الرئيسية تلخّص بأنها سياسية وظالمة بحق كل لاجئ فلسطيني، أولاً، ثم بحق العاملين فيها، كما بحق إنجازاتها التاريخية التي يشيد بها كل من تعامل معها أو دعمها على مر العقود.
منذ سنوات طويلة والحملات الشرسة مستمرة من خلال اتهامات باطلة طالت أعمال الوكالة وولايتها. وهنا أودّ التنويه بأن إدارات الوكالة المختلفة، وعلى مرّ السنوات، كانت ولا تزال تخضع للجان رقابة وتدقيق داخلية، سواء مالية أو إدارية، من خلال دائرة مختصة مستقلة في «الأونروا»، وأيضاً من خلال لجنة تدقيق يرسلها مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك سنوياً. كما إن هناك اجتماعات دورية تحت غطاء اللجنة الاستشارية تشارك فيها الدول المانحة والدول المضيفة التي تستمع إلى شروحات مفصّلة من رؤساء البرامج والدوائر وأيضاً مدراء الأقاليم الخمسة والمكتب التنفيذي. علماً أن كل تقارير وتوصيات هذه اللجان متوافرة على موقع «الأونروا» الإلكتروني الرسمي.
إلا أنه، ورغم كل ذلك، لا تزال الهجمات مستمرة وبأشكال متعدّدة، لعل أكثرها شراسة مؤسسة أطلقت على نفسها اسم رقابي للأمم المتحدة (UNWATCH)، واستمرّت بسوء استخدام هذا الاسم بإصدار تقارير ملفقة ومفبركة متعلقة بخرق موظفي «الأونروا» للحيادية وبتضخيم قضية اللجوء الفلسطيني وبتعليم الكراهية والعنف في الكتب المدرسية. وقد تسبّبت التقارير في دفع بعض المانحين إلى التعامل معها كأنها حقائق مثبتة، وتم إرسالها إلى برلمانات الدول المانحة، ما ألزم الوكالة بذل جهد كبير لمحاربة تلك التقارير الكاذبة بحقائق، إلا أن تلك المنظمة تواصل تدوير معلوماتها بأسلوب خبيث يثير اهتمام الدول المانحة خوفاً من تلك الحكومات على «مصداقيتها».
في اجتماعات عدة، وبعد شرح مفصّل يثبت أكاذيب تلك المنظمة، سمعنا تأكيدات من ممثلي الحكومات الداعمة بأنهم على قناعة بأن «الأونروا» تعمل بإمكانياتها على إنجاز أفضل برامج وخدمات، وبمهنية، في أقاليم عملها الخمسة. وكانت الولايات المتحدة من ضمن تلك الدول الراضية جداً عن أعمال «الأونروا» دون أي تحفظ، وظلّت أكبر المانحين حتى نهاية عام 2017 عندما ظهر عجز بـ 120 مليون دولار.
يومها، توجّهت الإدارة العليا إلى الولايات المتحدة طالبة منها سدّ العجز كما كان يحصل في معظم السنوات السابقة من خلال ضخ تمويل إضافي استثنائي. الذي حصل أنه مع وصول الرئيس دونالد ترامب، تولى أحد مستشاريه الاجتماع مع ممثّل «الأونروا»، وسأله: «ماذا قد يحصل لو لم تتدخل الولايات المتحدة هذه المرة بدفع التمويل الإضافي؟». كان الرد بأن وقف الخدمات يؤدي إلى حالة كبيرة من عدم الاستقرار في المنطقة. لكن الإدارة الأميركية رفضت دفع أي مبلغ إضافي بخلاف السنوات السابقة، في ما بدا أنه قرار أميركي باختبار عدم الاستقرار في المنطقة.
نجحت الحملة الإسرائيلية في إقناع كثيرين بوقف التمويل، لكن مشكلة الإدارة تحتاج إلى مفوض جديد يعيد الثقة مع العاملين في الوكالة، ومع اللاجئين كما مع المانحين
عندها، بادرت الوكالة إلى اتخاذ إجراءات احترازية لتضمن عدم توقّف أي من الخدمات، بالتشاور والتعاون مع كل الدول المانحة والدول المضيفة وبالطبع مع اتحادات العاملين لضمان الاستقرار، وتمكّنت من ذلك. إلى أن جاء القرار الأميركي في عام 2018 بوقف كامل التمويل السنوي والبالغ 360 مليون دولار، أي ما نسبته 30% من موازنة الوكالة، واتهمتها بسوء الإدارة وعدم المصداقية لمجرد أنها لم توقف أياً من الخدمات الأساسية عام 2017 كما توقعت واشنطن. لتستمر بعدها الضغوط والاتهامات الهادفة إلى تدمير «الأونروا»، وانطلقت حملة إسرائيلية تتوعّد بإغلاق مقرّ «الأونروا» ومدارسها وعياداتها الطبية في القدس الشرقية المحتلة.
عندها اضطرت الوكالة إلى إطلاق حملة تمويل كبيرة تحت شعار «الكرامة لا تقدّر بثمن». وأصبح هذا الشعار يتجول حول العالم لدعم «الأونروا» مالياً وسياسياً، في مواجهة مَن يحاول الإطاحة بها.
وفي نهاية عام 2018 تم سدّ فجوة التمويل الأميركي، وتوفير تمويل إضافي ساعد في تغطية أكلاف البرامج بداية عام 2019. لكن الذي حصل، أنه وفي العام نفسه، بدأت عملية تغيير لكل أعضاء الإدارة العليا، وفتح مرحلة جديدة تهدف إلى تدمير «الأونروا»، من خلال آلية مبرمجة من داخل الوكالة وخارجها، وانتهى الأمر إلى تعيين إدارة جديدة لا تكترث لأمور اللاجئين وأوضاعهم، بل تسعى إلى إرضاء بعض أصوات من «المجتمع الدولي».
مع الوقت، تغيّرت الأولويات، ولم تعد الولاية هي المرجعية بل أصبح التمويل هو العنصر الحاكم. وأصدرت الوكالة قائمة بالخدمات مع أكلافها، تاركة لكل دولة مانحة أن تختار البرنامج الذي يناسبها. فتحولت «الأونروا» إلى أداة سياسية بيد دول تعمل وفق أجندة سياسية وليس وفق مبادئ الأمم المتحدة الصادرة. والسويد، على سبيل المثال، كانت داعماً رئيسياً سياسياً ومادياً في الأعوام التي سبقت 2019 ولكنها توقفت عن التمويل.
بينما عادت واشنطن إلى تمويل الوكالة بعد انتهاء ولاية ترامب، لتعود وتقرّر وقف الدعم قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وهو الذي رفع سقف الموقف إلى التفكير بإعلان «الأونروا» كـ«منظمة أجنبية إرهابية». وبالنسبة إلى سويسرا، أعلن وزير خارجيتها بأن «الأونروا» هي «جزء من المشكلة» في قضية اللجوء الفلسطيني مطالباً بالتوطين للفلسطينيين في الدول المضيفة لهم كلاجئين.
أمّا كندا، فقد أوقفت التمويل لفترة طويلة ثم أعادته تدريجياً وبشروط متخوفة من ردود فعل برلمانها، وقامت بعض الدول برصد تمويل لبعض مناطق العمليات فقط ولبرامج محددة وليس كالسابق عندما كانت تمول ميزانية البرامج بالكامل وبحسب ولاية «الأونروا» دون قيود. بينما تم نقل المفوض العام للوكالة من مقرّه من القدس الشرقية. كما تم إضعاف دائرة تعتبر في غاية الأهمية لجلب التمويل واستمرارها بالعمل الروتيني لسنوات عدة دون تعيين رئيس لها ودون دعم أي مبادرات جدية لجلب تمويل إضافي استثنائي.
ما بعد 7 أكتوبر والاستسلام
بعد عملية «طوفان الأقصى»، شهد قطاع غزة هجمات طالت المدنيين في معظم الأحيان. ورحل مئات الآلاف من بيوتهم، وكانوا يتطلعون إلى مقرات «الأونروا» كـ«مكان آمن» عندها حصانة وحماية.
علماً أن معظم تلك المنشآت يتم تجهيزها دائماً لتصبح مراكز إيواء للمدنيين في حالات الطوارئ. لكن، بدا الأمر مختلفاً هذه المرة، لأن تعليمات الإدارة لموظفيها كانت صادمة ومجحفة جداً بحق هؤلاء الأطفال والنساء. وصدرت تعليمات في الأسابيع الأولى من الحرب على غزة، تطلب إلى الموظفين المحليين ترك المقرّات فوراً والتخلي عن النازحين في المقرات والتوجه إلى جنوب القطاع بحسب أوامر الجيش الإسرائيلي، ما شكّل صدمة كبيرة للموظفين الذين استعدوا لخدمة المدنيين الباحثين عن النجاة والحماية.
وقد سبق ذلك إخلاء فوري لكل الموظفين الدوليين من قطاع غزة والبحث عن أماكن مناسبة حسب ما يرونه مناسباً، مع تعليمات صدرت من مكتب الأمن والحماية التابع للأمم المتحدة، تدعو مَن يستطيع مغادرة قطاع غزة أن يفعل ذلك دون أي تنسيق. وقد فعل بعضهم ذلك، وبقي آخرون في خدمة الناس، وقد استشهد عدد كبير منهم بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية. ولم تعد «الأونروا» قادرة على الاستجابة للطوارئ حتى بما كان متوافراً أصلاً من غذاء ومواد طبية في مخازنها داخل القطاع.
في غضون ذلك، كانت إسرائيل تتهم بعض الموظفين بالمشاركة في هجوم السابع من أكتوبر، وتجلّت الكارثة بإقدام المفوض العام على فصل هؤلاء الموظفين دون أي تحقيق، مخالفاً القوانين الداخلية للأمم المتحدة كافة، بينما استمرت الهجمات على المقرات والمدارس والعيادات ودمّر ما يقارب 70% منها دماراً كاملاً. كما أوقفت عدة دول مانحة تمويلها بعد قرار فصل الموظفين، كون الدول المانحة وجدت في قرار المفوض العام بفصل الموظفين اعترافاً ضمنياً بالاتهامات الموجهة.
وكان هذا القرار بمثابة الهدية الثالثة من المفوض للحكومة الإسرائيلية؛ فالأولى كانت بإغلاق مكاتبه بالقدس، والثانية عند رفض استقبال النازحين بمقرّات الوكالة، والثالثة بفصل الموظفين.
بداية عام 2020، صدرت أصوات من داخل الوكالة، تعترض على أسلوب المفوض وقراراته الفردية، حتى أنه أخفى تقريراً قدّمه عدد من المدراء من داخل «الأونروا» لخبير تم تعيينه بتمويل ألماني يكشف عن سوء إدارته واستياء عدد من المدراء وعدم قدرتهم على العمل كما يجب. وعمد إلى تعيين أشخاص موالين له في مناصب حساسة، مثل نائب له كانت تعمل سفيرة لبلدها لدى لبنان، ومستشار سويسري صديق لوزير الخارجية السويسري الذي كان مقتنعاً بأن وجود «الأونروا» هو جزء من مشكلة وليس العكس.
الوضع الحالي في الأقاليم الخمسة
بعد إقرار البرلمان الإسرائيلي قانون منع عمل «الأونروا» في كانون الثاني من عام 2025، تم إبعاد كل الموظفين الدوليين وأصبحوا منذ ذلك الوقت يتابعون العمليات من منازلهم في دول عدة. ثم حصلت عمليات توغّل إسرائيلي داخل مخيمات الضفة الغربية، وتفيد تقارير «الأونروا» عن وجود آلاف العائلات دون مأوى وعن تفريغ المخيمات من السكان. علماً أن شرطة الاحتلال اقتحمت مبنى الرئاسة في القدس الشرقية، وأزالت علم الأمم المتحدة وقامت بتسليم إخطارات لإغلاق مدارس «الأونروا» في المدينة، وإبلاغ الموظفين بالبحث عن عمل خارج «الأونروا».
أمّا في غزة، فإن «الأونروا» تعمل اليوم تحت غطاء منظمات أممية أخرى لإدخال المساعدات، وتعاني بشكل كبير من تمكّنها للاستجابة. ثم إن الوكالة لم تتعامل مع عائلات الموظفين الذين قتلوا خلال تأدية عملهم، ولم تدفع التعويضات، مع تعقيدات في الإجراءات التي تسمح للناجين بالحصول حتى على مدخرات ذويهم. وتقرّر استخدام قانون استثنائي بحق مئات من الموظفين الفلسطينيين الذين غادروا غزة بتوصيات من مكتب الأمن التابع للأمم المتحدة رغم تمكنهم من إتمام عملهم كمعلمين من خلال برامج خاصة بالتعليم من بعد.
وفي لبنان، فقد تم اللجوء إلى خطوات مجحفة بحق اللاجئ الفلسطيني، أولاها تثبيت بصمة العين أو الوجه، وإعادة تعريف اللاجئ، وتقليص الخدمات بأكملها، وإغلاق مدارس أو عيادات وعدم إتمام إعمار مخيم نهر البارد، وفصل تعسّفي للموظفين تحت غطاء الحيادية. أمّا في سوريا، ومع تغيير الحكم وتقليص تمويل «الأونروا»، فأصبح اللاجئ في حالة ضياع مع عدم وجود أي أمل أمامه سوى الهجرة. حيث لا يوجد برنامج واضح يتعلّق بإعادة الإعمار أو عودة النازحين من اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا. فيما تواصل الحكومة الأردنية تحمّل الجزء الأكبر من أعباء تكاليف الخدمات لاستضافة اللاجئين الفلسطينيين.
مستقبل «الأونروا»
تتمثّل قوة «الأونروا» بوجودها في الأقاليم الخمسة، وفي المخيمات كافة وفي مناطق تجمعات اللاجئين. وهناك فرص كبيرة لإعادة ترميم ما تم تدميره، لأن القوة الأساسية تعتمد على الموارد البشرية، والموظفون لا يزالون يعملون رغم المضايقات، ويقدرون على الاستمرار. لكن الأمر يتطلّب، عملياً، انتهاء ولاية المفوض العام الحالي في شهر آذار من العام المقبل، وتعيين مفوض عام جديد يضع أمامه خطة إنقاذ فورية لإعادة الوكالة إلى حال أفضل مما كانت عليه.
وهذا يتطلب مشاركة الدول المضيفة ودائرة شؤون اللاجئين، والحصول على موافقتهم قبل تعيين أي شخص للتأكد من أنه يتمتع بخبرات كبيرة، لأن المهمة محصورة في إنقاذ هذه المؤسسة وإعادة دورها الرئيسي كما يجب. ويوجد عناصر كثيرة في الإدارة الحالية تتمتع بهذه الصفات. علماً أن الثقة الدولية عادت من خلال تمديد ولاية «الأونروا» قبل حوالى شهر بقرار من الجمعية العمومية وبأكثرية ساحقة. والمهم العمل لإعادة الثقة بين مجتمع اللاجئين و«الأونروا»، وما بين الوكالة والدول المضيفة دون أي مجاملات ديبلوماسية، وإعادة الثقة بين العاملين في الوكالة والإدارة العليا التي لم تعد تكترث حتى بالاجتماع معهم أو مشاركتهم أياً من القرارات.
*رئيس سابق للمكتب التنفيذي وهيئة العاملين لدى «الأونروا»