آخر الأخبار

المفاوض اللبناني واتجاهات المناورة الأميركية ــ الإسرائيلية

11

حسام مطر

يكشف تتبّع السياسة الأميركية (الديبلوماسية القسرية) ضد حزب الله في الأشهر الأخيرة، أنّ لها نمطاً محدّداً من حيث استخدام التهديدات العسكرية الإسرائيلية لتشكيل مواقف الدولة اللبنانية ضد حزب الله بشكل متدرّج ومتصاعد ولتقييد خيارات حزب الله وقدرته على المناورة. وقد اتسمت التهديدات الإسرائيلية بالعودة إلى الحرب بكثافة ضخّ المعلومات المزيفة بالاستفادة من تعاون أو خفّة منصات وشخصيات عربية ولبنانية، وبتحديد مواعيد زمنية بشكل غير رسمي (لزيادة الترقّب والخوف)، وبكونها داهمة (أي خطر محدق)، وربطها بشروط على المستهدف الخضوع لها وإلا يتحمّل هو مسؤولية التصعيد وليس المعتدي.

يمكن الافتراض ببداهة وجود تنسيق أميركي إسرائيلي متقّدم في صياغة هذه الديبلوماسية القسرية، من دون أن يمنع ذلك وجود تباينات قد تتزايد عند الاقتراب من الموضوعات الأكثر حساسية. وقد يكون التباين الأميركي الإسرائيلي الأساسي هو حول «درجة الحسم» التي يمكن تحقيقها ضد حزب الله عسكرياً بمخاطر معقولة، وحول مدى الاعتماد على المسار السياسي مقارنة بالمسار العسكري.

في هذا السياق، تظهر لجنة مراقبة تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم) في قلب السياسة الأميركية ضد حزب الله. فقد تم تحويل اللجنة إلى رافعة ضغط وتحقّق ضد حزب الله (بشكل مباشر وعبر الدولة اللبنانية)، ومنصة لشرعنة العدوان الإسرائيلي المتواصل ومطالبه المتلاحقة لكن تحت النظر الأميركي اللصيق. ومع ضمّ عناصر مدنية لبنانية وإسرائيلية للميكانيزم يظهر أنه يُراد لها أن تكون مدخلاً لتفاوض سياسي مباشر، مع سعي إلى أن يصبح هذا التفاوض هو المسار الرئيسي.

أفضت السياسة الأميركية في العام الأول لما بعد العدوان على لبنان إلى 4 منعطفات رئيسية: إنتاج سلطة لبنانية جديدة تتّسق مع المعايير الأميركية؛ تكريس القراءة الإسرائيلية لاتفاق وقف الأعمال العدائية عبر استمرار الاحتلال والعدوان؛ قرارات حكومة نواف سلام بتبنّي أهداف ورقة المبعوث الأميركي توم باراك ومنها نزع سلاح حزب الله؛ ضمّ شخصية مدنية/ سياسية إلى الوفد اللبناني في الميكانيزم.

بناءً على هذه الوقائع، يمكن استخراج أربعة اتجاهات عمل أميركية – إسرائيلية متكاملة لإبقاء حزب الله تحت ضغوط متصاعدة تدريجياً توصله إلى عتبة الانكسار في لحظة ما من دون أن يمتلك خيار المواجهة:

1. فصل التفاوض مع الدولة اللبنانية عن مسار الضغط العسكري على حزب الله لنزع السلاح، بحيث لا يفضي أي تقدّم محتمل في المسار الأول إلى التراجع في المسار الثاني. ويهدف هذا الاتجاه إلى الدفع نحو إنجاز صيغة اتفاق جديد بين الدولة اللبنانية وكيان العدو يتضمّن تنازلات لا يوافق عليها الحزب، ليكون بديلاً من اتفاق وقف الأعمال العدائية.

يُراد لـ«المنطقة الاقتصادية» أن تُعيد تعريف «المنطقة العازلة» بطريقة مضلّلة وتوفير أرضية لبحث نزع ملكيات المواطنين في المنطقة الحدودية لأغراض أمنية أو بالحد الأدنى إغواء السكان ببدائل مادية مقابل تنازلات أمنية وسيادية

وفي حال واصل الحزب معارضته لصيغة الاتفاق الجديد تتصاعد الاعتداءات والتهديدات. وعبر هذا الفصل يطمح العدو إلى منع الدولة اللبنانية من صياغة تفاهمات مع الحزب حول بقاء السلاح شمال الليطاني. وبنتيجة استدراج الدولة إلى هذا الفصل التفاوضي ستنزلق إلى مجاراة المطالب الأميركية من دون تمكين الحزب من «الاستتار» بالدولة (بحسب ما يصرّح العدو)، وتالياً افتعال شرخ وتوتّر عالٍ بين الدولة والمقاومة. وفقاً لهذا كلّه يعوّل العدو على حفظ «شرعية» مطلب نزع سلاح حزب الله كقضية قائمة بحد ذاتها ودفع مسار التطبيع في الوقت عينه.

2. دفع الدولة اللبنانية، بالضغط والتهديد والإغراء والتواطؤ (من بعض المنخرطين في المشروع المعادي)، للمطالبة بنزع السلاح شمال الليطاني، وهو ما سيرفضه حزب الله. عبر هذه المطالبة تشرعن الحكومة اللبنانية التفسير الإسرائيلي الأميركي للقرار 1701 بأنه يشمل نزع سلاح الحزب من كل لبنان وتوفّر للعدو «حق» توسعة العدوان بعد انقضاء مهلة نهاية عام 2025 لحصر السلاح التي وردت في ورقة برّاك التي تبنّت الحكومة اللبنانية أهدافها.

وبذلك تتوافر للعدو الإسرائيلي ذريعة لتدخّل مستدام في الشؤون الداخلية اللبنانية تحت عناوين نزع السلاح ومنع الترميم ومنع التصنيع ومنع التهريب، وحتى لطلب تفكيك بنية المقاومة ما دامت الدولة اللبنانية أذعنت بالكامل. وفي النتيجة، سيرتفع مستوى التناقض بين الدولة والمقاومة وفقاً لمسار مستدام، وهكذا تتشكّل بيئة ملائمة حتى تتخذ الحكومة إجراءات متواصلة للتعامل مع الحزب على أنه ميليشيا غير شرعية.

3. استخدام التهديد الإسرائيلي بتجديد الحرب ضد لبنان حتى تناور واشنطن لفرض خطوات سياسية وأمنية على الدولة اللبنانية تؤدّي إلى تضييق الخناق على موقف حزب الله، بما في ذلك من داخل المجتمع الشيعي. بهذا الوضع يراهن العدو أنه سينجح في إبقاء مجتمع المقاومة بحالة ترقّب واستنزاف وقلق يؤدّي إلى خفض مناعته وقدرته على الصمود، ومن ناحية ثانية ستتأثّر القوى الحليفة للمقاومة حتى تتمايز عنها لتجنّب الأثمان المحتملة.

4. إضافة متغيّر اقتصادي إلى الترتيبات الأمنية الحدودية بهدف إيجاد روافع، مادية ونفسية، تقلّل قدرة سكان المناطق الحدودية على رفض الإجراءات الأمنية التي يريدها العدو، وتوفّر للحكومة ذرائع لرفع مستوى التطبيع مع الكيان. يُراد لـ«المنطقة الاقتصادية» أن تُعيد تعريف «المنطقة العازلة» بطريقة مضلّلة وتوفير أرضية لبحث نزع ملكيات المواطنين في المنطقة الحدودية لأغراض أمنية أو بالحد الأدنى إغواء السكان ببدائل مادية مقابل تنازلات أمنية وسيادية.

وهكذا يطمح العدو لإنتاج شبكات مصالح جديدة في الجنوب تقوم على التنافر مع مشروع المقاومة. وستكون «المنطقة الاقتصادية» المخطط لها عند الحدود الجنوبية ذريعة لجماعات لبنانية أخرى مؤيدة للتطبيع للمطالبة بأن تشملها إجراءات مماثلة. في المحصّلة، إن تحققت «المنطقة الاقتصادية» ستُبرمج بنحو يؤدّي بالتدريج إلى مسارات تنسيق وتعاون اقتصادي سرعان ما سيلزمها تفاهمات أمنية وسياسية ومالية وتجارية بين لبنان وكيان العدو تفضي حكماً إلى تطبيع سياسي كامل.

بناءً على هذا الفهم والاستشراف لاتجاهات عمل العدو، يفترض أن تتحسّب الدولة اللبنانية كونها تعلن: رفض الصدام الداخلي حول السلاح؛ رفض التطبيع من خارج ما يُسمى «المسار العربي للسلام»؛ إدانة العدو لمواصلته الاعتداءات والانتهاكات؛ رفض تهجير سكان المناطق الحدودية وتطالب بحقهم في العودة إلى قراهم؛ رفض ذرائع العدو لتجديد عدوانه؛ وأن لبنان التزم بما عليه في الاتفاق بما في ذلك تعاون الحزب مع إجراءات الدولة في جنوب الليطاني.

وعليه، يصبح المفاوض اللبناني مسؤولاً بالكامل عن صياغة استراتجية تفاوضية متكاملة تكون مرجعاً للمساءلة والمحاسبة بحال سمح للعدو باستخدام التفاوض لتحقيق أهدافه الخبيثة والتوسعية.

* أستاذ جامعي

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة