آخر الأخبار

فائض القوة عند إسرائيل

64a539154c59b76e4046ef71

محمد سيد رصاص

تعيش إسرائيل أقوى حالاتها منذ قيامها في عام 1948. فالدول العربية الرئيسية التي قادت المواجهة معها إمّا مغيّبة ومهمّشة الدور (مصر بعد اتفاقيات كامب دافيد) أو في حالة أقرب للتحطّم (العراق وسوريا). والفلسطينيون في أضعف حالاتهم منذ عام 1948. وإيران أصبحت أضعف في عالم ما بعد 7 أكتوبر 2023. وكذلك حلفاؤها في لبنان وغزة واليمن والعراق. وتركيا لا يمكن أن تخرج من القفص الأطلسي في احتكاكاتها السورية مع إسرائيل. ومن حيث القوة العسكرية تملك الدولة العبرية احتكاراً انفرادياً للسلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط، وتملك أقوى جيش في هذه المنطقة، وهي من ضمن الدول العشر الأكثر تقدّماً في التكنولوجيا بالعالم.

ولكن إسرائيل لم تستطع طوال عمرها، الذي سيبلغ السابعة والسبعين في 14 أيار الحالي، أن تترجم هذه القوة إلى أن تكون واقعاً مقبولاً في مجتمعات المنطقة. وفي الشهر الماضي، أقرّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن «السلام كان بارداً مع البلدان العربية التي وقّعت اتفاقيات مع إسرائيل، لأنه لم يمتد من الحكومات للشعوب».

وكانت المقبولية هي هدف إسرائيل من الحروب مع العرب ومن الاتفاقيات مع الحكومات. ويبدو أن كلام نتنياهو يوحي بالعجز عن الوصول لذلك الهدف، لذلك هو يسعى إلى حل آخر هو ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة ثم الضفة الغربية، ولكنه يصطدم بأن مفاعيل الاتفاقيات مع مصر والأردن تمنع ذلك، حيث سيقود ذلك الترحيل للفلسطينيين إلى سيناء والضفة الشرقية إلى انتهاء كل ما تم بين مناحيم بيغن وأنور السادات عامي 1978 و1979 وبين إسحق رابين والملك حسين عام 1994، وعلى الأرجح أن نتنياهو لمّا عارض أرئيل شارون عام 2005 حيال خطة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة كان يفكر في خطة الترحيل وليس مدركاً لما كان يريده شارون من التخفف من عبء غزة للتركيز على قضم الضفة الغربية، أو هو غير موافق على ذلك.

وشارون، الذي كان أول من طرح، لمّا فكرت غولدا مائير في التدخل العسكري بالأردن بعد دخول القوات السورية أثناء المجابهة بين القوات الأردنية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية في أيلول 1970، فكرة «دولة فلسطينية في شرق الأردن»؛ على الأرجح كان يفكر في ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية للأردن بعد ترك غزة، وربما كلاهما لم يصلا إلى ما وصل إليه الجنرال السابق رحبعام زئيفي، ثم مؤسس حزب «موليدت» بالثمانينيات، لمّا طرح خطة ترحيل الفلسطينيين من أراضي الـ67 مع إشارات إلى مصير مشابه لعرب الـ48.

على الأرجح أن ثلاثتهم يعون مأزق دولة إسرائيل حيث الضم والسيطرة الجغرافية على ما بين البحر والنهر ستقودان إلى التعادل الديموغرافي بين العرب واليهود، مع أرجحية مستقبلية بعدد السكان على حساب اليهود، وبالتالي ستفقد إسرائيل وضعيتها كـ«دولة يهودية»، مع مساواة مواطنيها، كما حدد إعلان تأسيسها، أو «national home» للشعب اليهودي كما حدد وعد بلفور. والمؤشرات تدل على أن نتنياهو يتجه تدريجياً نحو حل زئيفي، على الأقل في غزة، متشجعاً بما طرحه ترامب أخيراً.

وإذا نجح في غزة، سيثنّي بالضفة. وما فعله في مخيم جنين أخيراً كان أقرب إلى البروفة، ولكنه عندما قدّم اقتراحاً عام 2018 عن «قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل»، وأقرّه الكنيست، كان يوحي بأنه لا يمانع في تحويل إسرائيل إلى دولة تمييز عنصري – أبارتهيد ضد حاملي جنسيتها من العرب، مسلمين ومسيحيين ودروز وهم خُمس السكّان، مع اتّباعه سُنة دولة جنوب أفريقيا في الضفة والقطاع والقدس الشرقية لمّا جمعت التمييز العنصري مع الوحشية في منطقة سيطرتها خارج الحدود في نامبيا.

هنا، كان شمعون بيريز، وهو أحد أذكى من مرّ على السياسة الإسرائيلية، قد أدرك وعبر كتابه «الشرق الأوسط الجديد» بالتسعينيات، بعد قليل من اتفاقية أوسلو عام 1993، أن تجربة جنوب أفريقيا ليست حلاً إسرائيلياً، ووقتها كان رئيس جنوب أفريقيا فريدريك دي كليرك قد وقّع اتفاق إنهاء نظام التمييز العنصري مع نيلسون مانديلا زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ووقتها أيضاً كان عالياً صخب تفكّك يوغوسلافيا التي انبنت على سيطرة الصرب على قوميات متعددة من كروات وبوشناق وألبان وغيرهم.

في كتابه ذاك، يقول بيريس: «ليس ثمة معنى في بحث الجغرافيا وأنت تهمل الديموغرافيا» و«الذين يتحدّثون عن إلحاق الأراضي إنما يقصدون في الواقع ضم شعبها بكل ما يترتب على ذلك من عواقب ديموغرافية وسياسية بعيدة المدى على كامل المستقبل القومي لإسرائيل وهويتها بوصفها الدولة الوحيدة للأمة اليهودية» (51-52) و«الرغبة في حكم أمة أخرى والسيطرة عليها لم تعد ممكنة» (52) و«العرب لا يستطيعون هزم إسرائيل في أرض المعركة وإسرائيل لا تستطيع إملاء شروط السلام على العرب» (44).

ويمكن هنا تذكّر كيف اجتمع الفلسطينيون والعرب والإسرائيليون في الهجوم على الأكاديمي الفلسطيني سري نسيبة لما اقترح عام 1986 دولة موحدة بين النهر والبحر بعد أخذ فلسطينيي الضفة والقطاع والقدس الشرقية لوضعية مع مواطني دولة إسرائيل في المساواة وفقاً لمبدأ «مواطن واحد، صوت واحد».

أخيراً، اقترح زعيم «تكتل الصهيونية الدينية» بتسلئيل سموتريتش ترحيل سكان غزة بعد احتلال القطاع، وهو لا يخفي أنه يريد ذلك بالضفة، وأحياناً يلمح لحل زئيفي في ترحيل عرب الـ48، وأخيراً قدّم رؤيته لتقسيم سوريا ودول عدة في المنطقة.

الأرجح أنه قرأ كتاب بيريز واستوعب جيداً معادلته: الضم يعني انتفاء يهودية دولة إسرائيل وطابعها القومي اليهودي وفقاً للأيديولوجية الصهيونية، لذلك يقترح الترحيل (الترانسفير)، وهو عبر وعيه لمعادلة بيريز الثانية، القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة لا تستطيع إجبار العرب على السلام، يقوم بالدعوة إلى تقسيم المنطقة لتكون لإسرائيل السيادة على المنطقة، ووفقاً لمؤشرات زلزال عراق 2003، وما بعده، يبدو أن الدولة العميقة الأميركية لا تريد تقسيم المنطقة بل تريد السيطرة عليها كاملة من دون خرائط جديدة ولكن مع «شرق أوسط جديد».

في مقابلة مع مجلة «ناشيونال انترست» (25 حزيران 2013)، ينتقد المستشار السابق للأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي في زمن كارتر (1977-1981) نظرة اليمين الإسرائيلي الذي يرى مصلحة في جوار مضطرب وضعيف: «هذا كارثة على إسرائيل بالمدى البعيد، لأن هذا سيقود إلى إزاحة النفوذ الأميركي في المنطقة وترك إسرائيل لوحدها.. على المدى القصير هذا سيقوي قلعة إسرائيل ويجعلها أكثر قوة لأنها لن تجد أحداً في طريقها، ولكن على المدى البعيد هذا سيخلق منطقة لا يمكن ضبطها حتى من إسرائيل نووية ولكن ليس لديها أكثر من ستة ملايين من السكان. هذا حلم».
* كاتب سوري

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة